دراساتصحيفة البعث

الناتو في ذكراه الخامسة والسبعين

عناية ناصر

لم يعُد حلف الناتو الذي بلغ الذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيسه في الرابع من شهر نيسان كما تصوّرته الدول المؤسسة بمنزلة حصن ضدّ الاتحاد السوفييتي في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبداية الحرب الباردة. وقد أدّى هذا إلى تغيّرات في الأولويات والتوقعات، وهو الآن على أعتاب التطوّر من تحالف أمني إقليمي-كان هدفه الرئيسي هو الدفاع المشترك عن دوله الأعضاء- إلى حضور عالمي مستعدّ لخوض حروب والهجوم بتهور، والدخول في صراعات ليس لدوله مصلحة مباشرة فيها، ولكنها على استعداد لإعادة تشكيل نفسها كقوة شرطة في العالم.

والآن يرى حلف الناتو أن مهمّته بعيدة كل البعد عن الهدف الأصلي لمعاهدة شمال الأطلسي التي أنشأته في عام 1949، كما أقرّت الديباجة الافتتاحية للمعاهدة نفسها، فقد نشأ الحلف من تصميم الدول الأعضاء على حماية الحرية والتضامن المشترك، وتراث وحضارة شعوبها على أساس مبادئ الديمقراطية والحرية الفردية وسيادة القانون.

وأضافت المعاهدة بشكل حاسم: “إنهم يسعون إلى تعزيز الاستقرار والرفاهية في منطقة شمال الأطلسي”. وكان يُعتقد أن الدفاع الجماعي والأمن المتبادل هما المفتاح لتحقيق هذه الأهداف. ومن ثم، تنص المادة الخامسة من المعاهدة على أن أي هجوم على أحد الحلفاء يمكن اعتباره هجوماً على الجميع ويمكن دعوة الجميع للدفاع عنه، وهذا المبدأ جعل حلف شمال الأطلسي يبدو قوياً للغاية في بداياته، ولكنه الآن يجعله خطيراً للغاية في مرحلة النضج.

ولنقارن ذلك بفهم حلف شمال الأطلسي لدوره في العالم في عام 2024: “لا يساعد حلف شمال الأطلسي في الأساس، في الدفاع عن أراضي أعضائه فحسب، بل يشارك أيضاً حيثما كان ذلك ممكناً وعند الضرورة في إبراز قيمه أبعد من ذلك، ومنع إدارة الأزمات وتحقيق الاستقرار في حالات ما بعد الصراع ودعم إعادة الإعمار، وهذا يغيّر غرضه من تحالف أمني مباشر إلى تحالف عازم على إبراز رؤيته للعالم خارج حدوده، وهو هدف سياسي، وليس عسكرياً، كما أنه يعمل على توسيع النطاق الجغرافي للمنظمة بقدر ما تشعر به هي أو أعضاؤها. لقد تحوّل التجمع الأوروبي الأطلسي إلى حلف شمال الأطلسي العالمي، مع طموحات في أن يصبح حلف شمال الأطلسي الإمبراطوري.

وتتحدّث المنظمة بشغف عن الانخراط خارج حدودها من أجل ضمان الاستقرار في الداخل. إنها تبدو عقيدة مراوغة إلى حدّ كبير، بمعنى أنها قد تنجح في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى قد تنفجر في وجه شمال الأطلسي. ويتجلى ذلك من خلال ما حدث في الحادي عشر من أيلول 2001، حيث تم تفعيل المادة الخامسة للمرة الأولى والوحيدة حتى الآن في تاريخ الولايات المتحدة، وتعهّدت الدول الـ18 الأخرى الموقعة على المعاهدة بدعم الرد الأمريكي، الذي كان يتمثل في غزو واحدة من أفقر دول العالم، وشنّ حرب هناك لمدة 20 عاماً قبل الانسحاب وإعادة الدولة الأفقر الآن إلى طالبان، وهم الأشخاص أنفسهم الذين تعرّضوا للحرب. لقد جعل حلف شمال الأطلسي العالم مكاناً أكثر خطورة، وهو انجاز مثير للسخرية لأن إحدى وظائفه الرئيسية على المسرح العالمي هي إدارة الأزمات.

وتعني المادة الخامسة أيضاً أن الحلف الذي توسّع ليضمّ الآن 32 عضواً، ويتزايد العدد منذ بداية الحرب في أوكرانيا أصبح أيضاً تحت رحمة مغامرات السياسة الخارجية السيئة السمعة التي تقوم بها واشنطن والتي غالباً ما تشرك الولايات المتحدة في عمليات عسكرية يؤدّي الكثير منها إلى عواقب غير سعيدة لكل من أمريكا وأي شخص متورّط.

ويتجلى هذا بشكل خاص في شرق آسيا، حيث كان من الواضح أن المشاركة المتزايدة لحلف شمال الأطلسي كانت مصمّمة لمواجهة الصين. من الصعب أن نرى ما قد يحققه هذا التقليد الأخرق لاستراتيجية أمريكا الرامية إلى “احتواء” الصين، وخاصة بالنسبة لأوروبا. وإذا كان هناك أي شيء، فإنه لا يمكن أن يؤدي إلا إلى زيادة التوترات في منطقة لديها بالفعل أكثر من نصيبها العادل من بؤر التوتر، والعديد منها بسبب تدخل واشنطن.

ويصرّ حلف الناتو على أنه لا يسعى إلى توسيع عضويته في شرق آسيا من خلال البحث عن دول جديدة موقعة على المعاهدة، ولكنه شرع في سياسة إقامة “الشراكات” هناك. ولهذا السبب، حضر رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا قمة قادة حلف الناتو في ليتوانيا في تموز الماضي كضيف، حيث قال له الأمين العام للحلف ينس سولتنبرغ: “لا يوجد شريك أقرب من اليابان”. تم تأجيل خطط فتح ما يسمّى “مكتب الاتصال” الناتو في طوكيو بعد أن قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: إن ذلك سيكون “خطأ كبيراً”. وقال مسؤول فرنسي لم يذكر اسمه لوسائل الإعلام في ذلك الوقت: “إن الناتو، يرمز إلى، شمال الأطلسي، وكل من المادة الخامسة والسادسة -في نظامه الأساسي- تحدّد بوضوح النطاق ليشمل شمال الأطلسي”.

في أعقاب نهاية الحرب الباردة في أوروبا، كانت هناك توقعات بأن حلف شمال الأطلسي سوف ينتهي، وهذا صحيح إلى حدّ ما، حيث إن حلف شمال الأطلسي اليوم، من حيث الروح والشكل والوظيفة، بعيد كل البعد عن نسخة عام 1949.

كثيراً ما يقال: إن نجاح حلف شمال الأطلسي في الحرب الباردة يتجلى في حقيقة مفادها أن التوترات مع الاتحاد السوفييتي لم تتصاعد قط إلى حرب فعلية. ولكن يبدو اليوم أن منظمة حلف شمال الأطلسي الجديدة، التي يبلغ عمرها 75 عاماً، سوف تكون قادرة على التباهي بالشيء نفسه في العقود المقبلة.