عبد السلام العجيلي
حسن حميد
كلما مرّت ذكرى رحيله يضجّ قلبي ويضطرب، فقد كان قربه مئناساً، مثلما كان أدبه منارة إبداع، وروحاً جوّابة في عالم القيم النبيلة التي تصفّق للأفعال الحميدة، وتزور عن الأفعال الناقصة.
إنّه الدكتور عبد السلام العجيلي (1918- 2006) الأديب، والطبيب، والشاعر، والدبلوماسي، والعاشق للإبداع والسفر والجمال، لقد عرفته في أدبه، قبل أن ألتقيه، من خلال قصص “بنت الساحر” التي تعدّ تأصيلاً لفن القصة القصيرة في سورية، وعرفته في رواياته التي صارت أفلاماً سينمائية لها شهرتها ومكانتها في دوائر الفن السينمائي، شأنها في ذلك شأن روايات نجيب محفوظ، ويوسف إدريس أو إحسان عبد القدوس أيضاً، وعشت وقتاً مع قصصه ورواياته أحسبه ذهبياً لأنني تعلّمت منه كيف تصير الحكاية تاريخاً مضيئاً لحركة المغايرة ما بين الأزمنة، وكائناً معرفياً يصوّر المناقلة الحضارية الهائلة ما بين القرية التي تعيش رهينة الفصول والمواسم، والمدينة التي راحت تبني أدراج الحياة بالعلم، والمعرفة، والفنون، والتعب الجميل، وكيف يصير الماضي منصّة للارتقاء بالعادات والتقاليد والأعراف والتصوّرات والأحلام كيما تماشي أنساق الحياة ودلالاتها، وأنساق الحياة وما تصبو إليه.
عبد السلام العجيلي، روح وطنية، آمنت بوحدة التاريخ والجغرافية والمشاعر العربية من الأطلسي إلى الخليج العربي، وكانت فلسطين في القلب، مشى إليها، وكتب عنها، وواجهها وهي تتقلّب بين يدي الزمن الرديء، زمن الضعف والخور، وزمن المواجع والقلق، وقلة المعرفة، وخواء الأيدي من القوة، وفقد العقول للحكمة، وكثرة الجهل، والرضا بسقط الثمر.
لقد ترك عبد السلام العجيلي، وهو رجل وجيه في مدينته الرقة، وطبيب معروف ووحيد في المدينة في عقد الأربعينيات من القرن العشرين المنصرم، ونائب في البرلمان السوري، وشاعر، وقاص، وروائي، ومضى إلى فلسطين عام 1947 متطوّعاً في جيش الإنقاذ ليكون طبيباً للمجاهدين والمقاتلين، برفقة رئيس البرلمان السوري أكرم الحوراني (1912- 1996)، وعدد من الضباط، وأهل الجاه والمكانة في سورية.. اشترى بدلة عسكرية، أو شبه عسكرية، وبارودة، وجناد فشك، ومضى، يحمل حقيبة تنكية فيها القليل من الأدوات الطبية، والقليل من الأدوية، واجتاز جسر بنات يعقوب إلى قرى الجليل وبلداته، والتحق بأفواج المجاهدين، وراح يتنقّل معهم من قرية إلى قرية، ومن بلدة كبيرة إلى بلدة كبيرة حتى وصل إلى عكا مدينة البحر، أم البيوت العاليات، وأم الشوارع الوسيعة النظيفة، وأم الأسواق، والخانقهات، والقلاع، والأسوار، والحمامات، والمقاهي، فقرّ فيها، وراح يكتب عن عكا المكان، وعكا الناس، وعكا الحضارة والجمال، ثم عاد كرّة أخرى إلى أرياف الجليل، عاد إلى خيام المجاهدين، إلى خيمة الطبيب، ليكتب قصصه التي لا تنسى عن مشاعر المقاتلين الذين تركوا كل شيء فداءً للتراب الفلسطيني.
وروى لنا العجائب والغرائب عن صلف الإنكليز وانحيازهم لليهود، وغضبتهم المهولة تجاه كلّ من يقول لا، أو يرفع بندقيته في وجه اليهود الذين تكاثرت معسكراتهم وانتشرت، مثلما تكاثرت مستوطناتهم وانتشرت، إذ يذكر أنه كان في سيارة مدنية، وفي ثياب مدنية، وهو في طريقه إلى عكا، قاصداً حمّاماتها للاستحمام، فأوقفت دورية إنكليزية السيارة، وقامت بتفتيش ركّابها، فعثر أحد الجنود الإنكليز على ظرف طلقة بندقية فارغاً، لونه نحاسي، في جيب أحد المسافرين إلى عكا! فأخبر قائد الدورية، فأمره بالنزول، وقرأ عليه أمراً عسكرياً يخوّله بإعدامه لحيازته على سلاح حربي، وقد حاول العجيلي الذي يعرف الإنكليزية جيداً أن يقول لقائد الدورية ما قاله الرجل الفلسطيني، من أنه عثر على الظرف النحاسي لطلقة بندقية مرمياً على الأرض، وقد أخذه ليعطيه إلى حفيده، ابن السنتين لينفخ فيه، لكن قائد الدورية لم يستجب لرجاء العجيلي، وأمر الرجل الفلسطيني أن يقف على مبعدة عشرة أمتار قرب الطريق، وأمر ثلاثة جنود انكليز أن يصطفّوا إلى جوار بعضهم بعضاً ويعدموا الرجل.
وهذا ما كان، وسط ذهول الجميع، ويقول العجيلي إنه ومن معه من المسافرين في السيارة المدنية لم يغادروا المكان إلا بعد أن حفروا قبراً للرجل الفلسطيني ودفنوه فيه، لأنّ قائد الدورية الإنكليزية رفض أن يحملوه في السيارة إلى مدينة عكا، وقال: إنّ أحد الجنود الإنكليز فتّش جيوب الرجل الفلسطيني الذي أعدم، وأخذ كل ما وجده فيها، وقال قائد الدورية للعجيلي: إنّ هذه أمانات تطلب من الجيش الإنكليزي.
العجيلي الذي تسلّم منصب وزير خارجية سورية مرّة، ووزير الإعلام مرة، ووزير الثقافة مرّة، عاد بعد نكبة عام 1948 ليكتب قصصاً وسيراً وحكايات عن الجليل الفلسطيني، صوّرت حال الناس آنذاك، وبطولاتهم وهم يواجهون عدواً برأسين، أحدهما إنكليزي وثانيهما إسرائيلي، ووصّفت الطبيعة المدهشة، ووجوه العمران زراعةً وصناعةً، والغنى والخصب، والأسواق، والتجارة، والمدارس، والكتب والمكتبات والفنون.
قصص العجيلي الفلسطينية، تاريخ للمكان الفلسطيني الذي عبثت به الأيدي الإنكليزية والإسرائيلية، وتاريخ للأحداث والحادثات التي تقول بوضوح شديد، كيف واجه أهل الجليل الفلسطيني، الإنكليز والإسرائيليين وهم يدافعون عن بيوتهم وحقولهم ومساجدهم وكنائسهم ومدارسهم وأحلامهم، إنها الكتابة التي تعرّش فيها روح النضال والجسارة والعناد الوطني، على الرغم من قلة الإمكانات أو انعدامها في أكثر الأحيان.
رحل العجيلي الذي تُرجمت قصصه ورواياته إلى أكثر من 20 لغة عالمية، وقلبه يدقّ من أجل عودة، تمرّ من تحت قنطرة الظفر، إلى الجليل الفلسطيني، عبر جسر بنات يعقوب شأنه في ذلك شأن قلوب الجليليين التي تدقّ للعودة المحلومة.
Hasanhamid55@yahoo.com