دراساتصحيفة البعث

هاييتي ضحية التدخل الأمريكي

عناية ناصر

تمرّ هاييتي بأزمة اجتماعية واقتصادية وسياسية تتسم بأعمال الشغب والاحتجاجات والجوع والأنشطة الإجرامية، فخلال الفترة من كانون الثاني إلى أواخر آذار، قُتل أكثر من 1500 هاييتي ونزح 35000 آخرون بسبب عنف العصابات، كما غادر جميع المسؤولين المنتخبين. قليلون ممن يمكنهم ربط هاييتي بما كانت عليه من قبل: إحدى المستعمرات الفرنسية الأكثر ربحاً، وأول دولة حديثة في العالم تحظر العبودية، وأول جمهورية سوداء حرة في العالم، وأول دولة مستقلة في منطقة البحر الكاريبي وثاني دولة مستقلة في نصف الكرة الغربي بعد الولايات المتحدة. لقد كان من الممكن أن تحقق هاييتي قصة نجاح لولا تدخل جارتها القوية الولايات المتحدة.

الاحتلال العسكري

في أوائل القرن العشرين، كانت هاييتي في قلب المصالح الأمريكية في منطقة البحر الكاريبي. وبسبب قلقها إزاء النفوذ الألماني المتنامي في هاييتي، قامت الولايات المتحدة بتوجيه ضربة استباقية. وفي عام 1915، تم إرسال مشاة البحرية الأمريكية إلى الدولة الجزيرة، ظاهرياً لاستعادة وإرساء القانون والنظام بعد مقتل رئيس هاييتي الجديد على يد حشد من الرعاع، وكانت تلك البداية لاحتلال أمريكي دام 19 عاماً.

لقد كان الاحتلال وحشياً، وأشرفت القوات الأمريكية على انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، وقمعت المعارضة وقتلت المدنيين. وكان أحد الأفعال الفظيعة التي قامت بارتكابها هو إحياء نظام “السخرة”، وهو نظام العمل القسري حيث يتم أخذ الناس من منازلهم ومزارعهم، تحت تهديد السلاح إذا لزم الأمر، لبناء الطرق والجسور وغير ذلك من مشاريع البنية التحتية. وحسب بعض التقديرات، قُتل 15 ألف هاييتي أثناء الاحتلال.

ومن خلال الاحتلال العسكري وتدخّلين عسكريين كبيرين آخرين بعد انسحابها في عام 1934، قامت الولايات المتحدة بتثبيت حكومات عميلة تحت قيادة أمثال دوفالييه وشدّدت قبضتها على البلاد، حيث تم ببساطة تجاهل انتقادات الدكتاتورية والفساد الحكومي.

سرقة كبرى

مع السيطرة العسكرية جاء الاستغلال الاقتصادي والنهب. ووفقاً لأرشيف وزارة الخارجية الأمريكية وتقارير وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية، قامت الولايات المتحدة بسحب نصف مليون دولار من الذهب من بنك هاييتي في كانون الأول 1914 “لحفظها” في قبو بنك “وول ستريت”، كما قامت بالسيطرة على خزائن حكومة هاييتي وعلى أموالها حتى عام 1947، واستنزفت 40% من الدخل القومي لهاييتي.

ونتيجة لذلك، اضطرت هاييتي للحصول على قروض بفائدة عالية من البنوك الأمريكية. ووفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”، تمكّن بنك المدينة الوطني، سلف “سيتي غروب”، من امتلاك البنك الوطني في هاييتي من خلال شركة تابعة وحصل على هوامش كبيرة من القروض الممنوحة لهاييتي. وتحت ضغط الولايات المتحدة، أصدر المشرّعون الهاييتيون دستوراً جديداً في عام 1917 يسمح للأجانب بملكية الأراضي في هاييتي. وهرع رجال الأعمال الأمريكيون لشراء الأراضي في هاييتي، وحققوا أرباحاً كبيرة، في حين لم يدفعوا للعمال المحليين سوى عُشر متوسط راتب العامل في كوبا، كما أدّى الاحتلال الأمريكي إلى عرقلة التنمية المحلية. كانت هاييتي على وشك الإفلاس في نهاية الأربعينيات، وعانى شعبها عقوداً من الفقر، وعاشوا على نظام غذائي “يقترب من مستوى المجاعة”، وهو ما خلص إليه تقرير للأمم المتحدة في عام 1949، بعد عامين من تخلّي الولايات المتحدة أخيراً عن قبضتها المالية على هاييتي.

ضررٌ لا يمكن إصلاحه

لقد ترك التدخل الأمريكي آثاراً عميقة في هاييتي. أولاً، أثبت الافتقار إلى العقد الاجتماعي بين النخبة الحاكمة والجماهير أنه وصفة لعدم الاستقرار الدائم، وكان التدخل الأمريكي في الحياة السياسية في هاييتي سبباً في تغذية انعدام الثقة بين عامة الناس في قادتهم، الذين كانوا منشغلين للغاية في السعي وراء مصالحهم.

ثانياً، أصيبت قدرة هاييتي على تحقيق التنمية المحلية بالشلل، حيث فشلت البلاد في بناء الثروة أو أي صناعة حديثة. لقد تم تدمير زراعتها بسبب المساعدات الغذائية المدعومة بشدة من الولايات المتحدة. واضطر العديد من الهاييتيين إلى التخلي عن الزراعة والانتقال إلى الأحياء الفقيرة.

ثالثاً، أدّت الاضطرابات التي طال أمدها ونقص فرص العمل إلى نزوح الموارد البشرية التي تشتد الحاجة إليها. واليوم، يأتي حوالي ثلث الناتج المحلي الإجمالي للجزيرة من التحويلات المالية، إضافة إلى أن استنزاف القوى العاملة يديم حالة العوز.

ليس مجدّداً

في عام 2021، استقال دانييل فوت، المبعوث الأمريكي الخاص آنذاك إلى هاييتي، بعد شهرين فقط من توليه منصبه. وأثار فوت في خطاب استقالته الواضح والصريح المخاوف بشأن دعم الولايات المتحدة لأرييل هنري غير المنتخب كزعيم لهاييتي. وقال: “إن ما يريده ويحتاج إليه أصدقاؤنا الهاييتيون حقاً هو الفرصة لرسم مسارهم الخاص، دون تحريك الدمى الدولية والمرشحين المفضلين، ولكن بدعم حقيقي لهذا المسار”. ولم تؤدِّ استقالته إلى أي تغيير في السياسة، حيث تولّى آرييل هنري منصبه بدعم كامل من إدارة بايدن، رغم المعارضة المريرة من الشعب الهاييتي، وبدأت دورة أخرى من عدم الاستقرار.

لقد تم تصوير هاييتي منذ فترة طويلة على أنها دولة ميؤوس منها وتحتاج إلى الإنقاذ المستمر، ولكن لا ينبغي تجاهل حقيقة أن الكثير من المشكلات التي تعانيها هاييتي ليست من صنعها. والآن مع تشكيل المجلس الرئاسي الانتقالي على أمل احترام تطلعات واحتياجات الشعب الهاييتي، آن الأوان كي تترك الولايات المتحدة الهايتيين يختارون مسارهم بأنفسهم.