وليد عبد الرحيم.. سار على درب الكبار وقاتل بالبندقية والقلم
أمينة عباس
في المكان الذي وقّع فيه روايتيه “لست حيواناً” و”زريف الطول”، اجتمع أصدقاؤه ومحبوه والعديد من المثقفين في حفل تأبين، نظَّمته الأمانة العامة لاتّحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين وأكاديمية دار الثقافة، للمبدع الفلسطيني الراحل وليد عبد الرحيم المثقف الشامل الذي أبحر في عالم الأدب والفن، ليستذكروه، وإن كان أمثاله من المبدعين لا يُنسون ولا يرحلون.
وباسم الأكاديمية، شكر مدير الحفل الدكتور حسن حميد الحضور بقول: “الحضور البهيّ الذي يُعزّز دور الثقافة والكلمة المسؤولة، ويُخلّد مكانة الرموز ذات القامات العالية بعد أن ارتقت أرواحهم إلى السموات العلا كالراحل وليد عبد الرحيم الشاعر والروائي والسينمائي الذي رحل جسداً وبقيت شجاعته وجسارته الفلسطينية شاهدة على حضوره الآسر في الوسط الثقافي، وقد سار على درب الكبار كغسان كنفاني وأبو علي مصطفى، فسرى شعره وأدبه على ألسنة المقاومين وشاهدنا بقية حلمه على صفحات رواياته يروي قصص عشقه للمخيم”.
في حين بيّن رافع الساعدي أمين سر الأمانة أن عبد الرحيم فارسٌ ترجَّل وكان يؤمن بأنّ الأمانة بيت الثقافة الفلسطينية الذي يستوعب الفعاليات كاملةً، وقد فارق الحياة في مرحلة دقيقة جداً من مراحل النضال بعد أن اكتحلت عيناه بمعركة طوفان الأقصى وهو الذي آمن بدور القلم إلى جانب البندقية في مواصلة الكتابة لفلسطين التي عشقها وكان يسترشد بمقولة محمود درويش “لو على حجر ذبحنا لن نقول نعم”.
وحاول المشاركون في التأبين الأساتذة عمر مراد مسؤول الجبهة الشعبية، وأبو علي حسن عضو اللجنة المركزية للجبهة، والروائي مروان عبد العال، والكاتب سامي سماحة، والناقد أحمد هلال تلخيص مسيرة الراحل، وإن بدا ذلك أمراً صعباً جداً، لكنهم أجمعوا على أنه ابن فلسطين عن جدارة وابن الزمن الجميل يومَ تعملقت الهوية الفلسطينيّة، وابن الزمن القاسي يومَ انحرفت البندقيّة عن بوصلتها، وقد عاش مسارات الفعل المقاوم على مدى عقود مقاتلاً وكاتباً وروائياً ومخرجاً، ففلسطين دوماً كانت في مخيلته وملجأ وسر مثابرته، ومحفزّة له في إكمال الرحلة نحو سمو الحلم واكتمال الوعي الوطني، فعاش وغاب على وقعها، وخرجت كتاباتُه من سراديبها ورحمها مجسّدة العلاقة بين الإنسان والوطن والكفاح والاستشهاد، فصارت الخيمة لديه رواية، وحق العودة تحوَّل إلى أمّ الروايات، مجسداً كسينمائي أيضاً من خلال أفلامه الطاقة الكامنة لدى الشعب الفلسطيني في وعيه وقدراته وصموده وهو الذي أدرك مكانة الوعي والثقافة في مسيرة الكفاح، مقتدياً بتجربة وحياة وأدب وشخصيّة المثقف غسان كنفاني، فكان جاداً وجريئاً وحاداً في نقده، وقلقاً من ردود الأفعال على روايته “لست حيواناً، ولاسيما أنها رواية مختلفة عن المألوف وتنتمي إلى الروايات الرمزية التي تهمّ بعض المثقفين، وقد مزج فيها بين الفنتازيا والشعر وحركة الواقع، ما يؤكد للجميع أن الراحل كان عميقاً في تفكيره وتأملاته ومشاعره وطموحه.
وتوقف المشاركون عند عمل عبد الرحيم في الصحافة وتجربته الطويلة في مجلة “الهدف” ومركز الهدف الذي أنجز فيه ستة عشر كتاباً، وهو كان يؤكد أن عمله فيها يختلف عن محطات العمل الأخرى التي عمل فيها في الصحافة بالقول: “أنا لا أعمل بها امتهاناً.. هناك شيء يشبه حالة الشعر.. أحتسي القهوة كلّ صباح مع غسان كنفاني وناجي العلي”، كذلك ما قاله عن مخيم اليرموك الذي عاشه بكل حواسه كحالة نادرة في تاريخ الأمكنة: “لمخيم اليرموك سحر خاص وذاكرة استثنائيّة، فاليرموك محفور في ذاكرة كلّ من عرفه باعتباره مكاناً يعجّ بالثّقافة والتنوع والحرية، مثنين على إصراره على الكتابة إلى أن تسامت روحه بعد أن أصيب بمرض السرطان: “قلائل هم الذين تهجرهم أرواحهم قبل أن يهجروا أقلامهم”.
وتحدثت روزا عن والدها وليد عبد الرحيم قائلة: “وليد الأديب لا يختلف عن وليد الإنسان، بل يتماهى معه إلى أقصى حدّ، عطاءً وحناناً وعطفاً، جعله أقرب إلى الصديق منه إلى الأب، فآمن بالحوار وحق الاختلاف وصراع الأجيال وحق تقرير المصير على المستوى الشخصي والعام، وبأنَّه علَّمهم قيماً وخصالاً سترافقهم مدى الحياة، وكيف يستحضرون وطناً بعيداً ينتمون إليه”.
وفي ختام التّأبين، وزّعت روايته الأخيرة التي كتبها وهو على فراش المرض وحاول أن يوثق فيها يوميات إصابته بالسرطان وقد رحل من دون أن يكملها، لكن عفراء هدبا مديرة “دار دلمون الجديدة” كانت حريصة على إتمام ما بدأه، وتخطو خطواتها للنشر، لكونها آخر ما سطّره الراحل تحت عنوان “سرطان 2023” وتضمنت مقدمة كتبها الكاتب إسكندر حبش: “من دون شك في اللحظة التي شرع فيها وليد عبد الرحيم بالكتابة كان يخوض حربين كبيرتين، حرب الجسد ومرض السرطان وحربه التاريخية كمناضل فلسطيني بالتزامن مع طوفان الأقصى، نستطيع أن نعدّ ما كتبه عبد الرحيم جاء بمنزلة شهادة على وضعه الصحي، وإن لم يكن كثيراً كما على الوضع العام الذي كانت تعيشه مدينة دمشق مع بداية الحرب على سورية”.
يُذكر أن الراحل وليد عبد الرحيم ولد في مخيّم اليرموك بدمشق عام 1964 وله 18 كتاباً في الشعر والأدب والسياسة والتوثيق، ونشر عشرات المقالات في الصحف والمجلات الدورية، كما كان مخرجاً مسرحياً وسينمائياً، ومن مجموعاته الشعرية “بدايات”، و”بيارق”، و”بكاء على صدر العراق”، وفي رصيده روايتان هما “لست حيواناً” و”زريف الطول” جمع فيهما بين الشعر والنثر وما هو روائي وما هو سياسي، محاولاً أن يقدّم من خلالهما شكلاً جديداً للرواية العربية عبر توظيف كلّ مهاراته لكتابة ما هو مختلف عن المألوف على صعيد التقنيات والمضمون.