أدب الأطفال ولغتهم.. وفي هذا المَسْعَى نَسْعَى!
وجيه حسن
يرى كثيرٌ من المهتمّين بـ”أدب الأطفال”، أنّه مصدرٌ ثرٌّ من التّجربة، والمعرفة للأطفال، بِحَيَواتِهم وسلوكاتهم وأحلامهم، وسنُسايرُ القائل: (إنّ أدب الأطفال يُشبَّه بفتاةٍ غارقةٍ في سُباتها، ولقد جرى إيقاظها/ “إيقاظه”، بوطننا العربي المُترامي، لكنْ من زمنٍ ليس ببعيد.. وقد لعبَ الكِتابُ، وعددٌ جمٌّ من الكتّاب الضّالعين بهذا الأدب دوراً مهمّاً ومشهوداً في تنشيط ثقافة الطفل، هذه الثقافة -ولا شكّ- مرهونة في البدء بجهد الدولة بإنتاج أدبٍ للأطفال، والعمل على تبنّي نشره واستمراريّته).
وفي بعض بلداننا العربيّة، يُعنى “أدب الأطفال” بكلّ توكيد بتربية الطفل أوّلاً، لكي يقف على أرضٍ صلبة متماسكة، مؤمناً بازدهار بلده، ومُتيقّناً من تطوّره نحو الأفضل والأرقى والأجمل، وواثقاً من المستقبل الوَضِيء المنشود، “وفي هذا المَسْعَى نَسْعَى”!
والمثل العربيّ يقول: “خيرُ العملِ أدْوَمُهُ وإنْ قلَّ”.
اعتماداً على ما وردَ، واستناداً إليه، فقد عُنِيَ كثرةٌ كاثرةٌ من الكتّاب العرب المُتنوّرِين بتنشئة الأطفال وتربيتهم، لأنّهم يؤمنون عن قناعةٍ مُتجذِّرَة بـ”أنّ طالبَ الإصلاح، ينبغي أنْ يُعبِّدَ الطريق، وأوّل ما يُعنَى به المهندسُ، إنّما هو متانة الأساس وصلابته”.
من هنا، فإنّ الطفلَ أساسُ المجتمع، أيّ مجتمع، وموضعُ الأمل، ومناطُ الرّجاء، وألَقُ الحياة الدّائم، فالعناية به عنايةٌ بالوطن والدّولة، وغيابه “أي الطفل” أخطرُ أنواع الغيابات، وأكثرُها استلاباً، وأدْومُها ضياعاً!
ثمّ أليس عملُ الكتّاب/ المؤلّفين عملاً نافعاً ذا غنى للأجيال الصّاعدة، إذا ما عَرَفوا حقّاً ويقيناً، كيف ينسجون خيوط “أدب الأطفال”، ويقوّون الأواصرَ والوشائجَ والحِبال؟!.
وفي هذا السِّياق، وهذا المُعْطَى، يقول الكاتب المصري المعروف “كامل كيلاني”: (الرّائد العربيّ الأوّل لأدب الأطفال)، “1897– 1959م”:
“أنْفعُ النّاسَ وَحَسْبِي أنَّنِي أحْيَا لِأنْفَع”
“أنْفَعُ النّاسَ وَمَا لِي غيرُ نَفْعِ النّاسِ مَطْمَع”..
وحتّى يتمكّن كتّاب أدب الأطفال من تجويدات عملهم، وإبداعات قرائحهم -ما داموا قد سَمَّوا ما يُسلّون به أطفال الأمّة “أدباً”– فينبغي عليهم أنْ يتّفقوا إذن، على أنّ لغة الأدب هي اللغة العربيّة الفُصحى، إذ منْ حقّ أدب الأطفال علينا جميعاً، آباء وأمّهاتٍ ومسؤولين ومهتمّين ومتخصّصين، أنْ يكون بِلسانٍ عربيٍّ مُبِين، وفي فصاحة العربيّة مجالٌ ضَافٍ واسعٌ للكلمات المأنوسة، والجُمَل المألوفة، ما يجعل التّعبير أقرب إلى لغة الخطاب، وأنّه متى تمسّك العربُ بلغتهم الأمّ “لغة الضّاد”، عَزَّ جانبهم، وتراصّت صفوفهم، وأصبحت لهم كلمة مسموعة، وحضور كريم المقام، وأصوات مرتفعة بين الأمم والشّعوب، يعربون من خلال هذه اللغة الأمّ عنْ طموحاتهم وتطلّعاتهم واستشرافاتهم، حتى يعود إليهم مجدهم الغابر، وحضورهم الآسِر، وليس هذا على اللهِ بعزيز.
بهذا الإطار وحوله وفي ثيمتِه، يقول الكاتب كامل كيلاني: “وطريقتي في استخدام اللغة هي: التّكرار والإعادة، مع الشّكلِ الكاملِ لكلِّ حروفِ الكلمة، فأنا أكرّر الكلمة الجديدة في قصصِ الأطفالِ نحو خمسٍ وعشرين مرّة، حتى نحسَّ أنّ الطفلَ قد فهمها فهماً دقيقاً حيّاً في الجملة ذاتها، وحتى تثبتَ في نفسه ثبوتاً راسِخاً كَرُسوخِ الجبال، وتصبح جزءاً من ثروته اللغويّة، يستعملها بحديثه ونطقه، وكتابته وتعبيره”.
وعلينا ألّا ننسى هنا، أنّ أدب الأطفال يؤلّف أداةً فنيّةً منْ أدوات تنشئة الطفولة، التي تُعدُّ ركيزة المستقبل، وعموده الفِقري، لأنّه –أي الأدب– يُسهم في بناء شخصيّتها إسهاماً باصِماً مُثمِراً، تلك التي تقوم عليها –في القابل من الأيام والسّنين– شخصيّة المجتمع الجديد، وكينونته، والمستقبل.. “ولا يكفي أنْ يعرفَ أديبُ الأطفال جمهورَه جيّداً، بل لا بدّ منْ أنْ يحترم ويقدّر طفولتهم البريئة، ويلقي في نفوسهم المُنَمْنَمَة، أنّه صديقٌ لهم، وألّا يغاليَ بأستاذيّتهِ عليهم، أو يعمد إلى التّقليل منْ شأنهم، أو أنْ يستخفَّ بهم وبقدراتهم”، وفي هذا ما فيه من أذًى وضرر باهِظَين، يخدشان طفولتهم الريّانة الصّافية، بلْ ويَجرَحانِها!
يقول “جواهر لال نهرو”، (1889– 1964م) ـ كاتب وسياسي هندي، من مؤسّسي استقلال الهندـ: “إنّ الأطفال أنْقِياء أصْفِياء، لكنّنا -نحن الكبار– مَنْ يُدْخِل الكَدَرَ والعَكَرَ إلى قلوبهم ونفوسهم”.
إنّ الطفولة بطبيعتها طاقة كامنة، لا يمكن لها أنْ تنطلق منْ عِقالِها بصورة كافية، إلّا إذا عملنا -نحن الكبار- على تفتّح أزاهيرِها وآفاقها والورود، بشكلٍ دقيق، وبلا ضغوط، أو أيّ مُنفّرات!.. في هذا المضمار، أبيّن للقارئ المُثابر المُتأنِّي من الجِنْسَين، ما قاله الكاتب المسرحي، والمؤلّف القصصي الرّوسي “أنطون تشيخوف”، (1860– 1904م): “لقد أخفقَ عَمّي في تربية الهِرَّة، لأنّه دعاها إلى الصّيد قبل الأوان، بأسلوبٍ جَبْريٍّ قَسْريٍّ، أفقدَها عنصرَي الشّجاعة والإقدام.. لقد كان لي شرفُ تعلّم اللاتينيّة على يد عمّي الجاهل، وعلى صعيد تربيته الرَّعْناء.. تخرّجتُ كارِهاً اللغة، وكارِهاً عمّي، وكارِهاً الطرق الجَبْريّة القَسْريّة بآنٍ معاً!”.
ولكي أكون أكثر دقّة وموضوعيّة بهذا المقال، فإنّه “لا أدب أطفال بلا رِسالة”، وإلّا كان الكلام حشْواً واجتِراراً ومفرداتٍ خاويةً مُتصحّرة! “فثقافة الطفل عملٌ تربويٌّ بالدّرجة الأولى، سواء أكان مؤلّفاً أم فنّاناً أم فنيّاً أم مشرفاً أم أباً أم أمّاً..
إنّ التّثمِير الأنجح لثقافة الطفل، يتوقّف على مسؤوليّة المُربّي في تعدّد أدْوارِه وتنويعها، وفي التزام الأهداف المَرجوّة”، على حدّ قول الكاتب والباحث السّوري المرْحوم الدكتور عبد الله أبو هيف.
وفي الحقيقة واليقين، إنّه من الأسهل علينا “أنْ نُشذّبَ غَرْسَةً، على أنْ نشذّبَ شجرةً”، أعني أنّ الأطفال يتشرّبون القِيم الإنسانيّة -على رأسها القِيم التربويّة والأخلاقيّة والسّلوكيّة- أكثر ممّا يتشرّبها البالغون من الكبار.. مثل هذه القِيم نراها بالعادة مبثوثةً في تضاعِيف النّتاج المعرفيّ والأدبيّ لأدب الأطفال، نثراً وشعراً، وهذا ما يمكن أنْ يُطلَق عليه “الجمال الفنيّ”، الذي ينمّي شعورَ الطفل، ويُرْبِي تذوّقَه الأدبيّ في وقتٍ معاً.
ختاماً، أسوقُ هذه الأبيات، للشّاعر المصري “محمد الهراوي”، (1885– 1939)، الذي عُنِي كثيراً بأدب الأطفال شِعراً – وبهذهِ اللغةِ القريبةِ المُحبّبةِ، يزرع في نفوس الأطفال ثلّةً من القِيم الرّفيعة، والمُثل النّبيلة، من خلال مسيرة وحكاية طفلة ذات تربية عالية، وخُلُق قويم، تُدْعَى “فاطمة”:
“فاطمة لا تغْضَبُ إلّا لِحَقٍّ يُغْصَبُ”
“لا تَحلِفُ الأيْمانَ لَغْواً لا، وَليسَتْ تكذِبُ”
“حَدِيثُها مُحبَّبُ وَطبْعُها مُهذَّبُ”
“فاطمة في دَرْسِها مُجِدَّةٌ لا تلْعبُ”
“فاطمة ليسَتْ تُسِيءُ لِامرِئٍ أوْ تُذْنِبُ”
“لا تَعرِفُ الشّتْمَ الّذي عَنْهُ نَهَاهَا الأدَبُ”
“أدّبَهَا مُعلّمٌ أكْسَبَهَا الخُلْقَ أبُ”.
قاص وروائي وباحث سوري