دمشق و”الأغلبية العالمية”
أحمد حسن
بالأمس، وفي حواره الفكري والسياسي الخاص مع وزير خارجية أبخازيا، قدّم السيد الرئيس بشار الأسد رؤية بالغة الدلالة والأهمية لعالم اليوم وتحدياته التي يمكن إجمالها تحت عنوان البحث الدائم والمستمر عن الاستقلال الوطني، بصورته الحقيقية لا الشكليّة، كما تحدّث عن الثمن الباهظ الذي تدفعه الدول والشعوب لقاء كرامتها في مواجهة قوى السيطرة والاحتلال التي تتمثل اليوم – وللحق منذ قرون خمسة كما أشار السيد الرئيس – بغرب مسكون بعقدة العظمة وشراهة النهب مترافقة مع حقيقة احتلال ما يمكن تسميته بـ “ساسة الصدفة” لسدة القرار فيه.
هكذا.. وجد العالم نفسه، في هذه المرحلة التاريخية، وهو ينقسم إلى فئتين: “الأغلبية العالمية”، التي تتطلع لاستقلالية قرارها وسيادته، في مواجهة مجموعة من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي وجدت أن السبيل الأفضل لديمومة سيطرتها، وبالتالي نهبها للموارد الاقتصادية والبشرية، هو في مزيج مركب من الوسائل التي لا تبدأ بإشعال النزاعات المحليّة واستثمارها في محيط ودواخل الدول الناهضة والباحثة عن دورها الحقيقي في هذا العالم، ولا تنتهي بالاستمرار في دعم المشروع الصهيوني في منطقتنا باعتباره “مخفرها المتقدم” وأداتها الأهم للإخضاع والاستتباع، مروراً بما هو أخطر من ذلك، أي “تدمير الهوية الوطنية بمعناها الواسع الذي يشمل الثقافة ومنظومة القيم والتقاليد”، وهي الدريئة التي تركّزت عليها كل “النزاعات في السنين العشر الأخيرة”، كما قال الرئيس الأسد، لكي يجعل، هذا الغرب، من السيطرة الخارجية أمراً مطلوباً، ومرغوباً في أحيان كثيرة، من قبل نخب وجماعات انحرفت بوصلتها الوطنية عن اتجاهها الحقيقي؛ سواء لارتباطها العضوي بمصالح المستعمر، أو للعطب الذي أصاب هويتها الوطنية نظراً لعملية “كيّ الوعي” المستمرة وفق برنامج خبيث ودائم وموجّه من غرب “لا يقبل سوى الأتباع” كما أوضح سيادته.
بيد أن هذه الوقائع الدامغة عن “بلطجية” الغرب الجماعي و”قوته” لا تعني، عند القادة الوطنيين، الخضوع “القدري” للاستعباد، فالعالم يتغير، وأحادية القطبية، كما قال الرئيس الأسد، في طريقها للنهاية، لأنها “أمر متناقض في بنيته، ظهرت عند تفكك الاتحاد السوفييتي، وهي من أوصلت العالم إلى هذه الفوضى”؛ وبالتالي، وإضافة إلى المشاركة الفعالة في فعل المقاومة الذي تقوم به الأغلبية العالمية، فإنها لا تعني أيضاً انطفاء جذوة الأمل في وجود “فرصة ولو بعيدة المدى استراتيجياً لإعادة الحوار مع الغرب الجماعي”، كما في رد السيد الرئيس على سؤال وزير خارجية أبخازيا، فالأمل “موجود دوماً” والحوار قائم بين الحين والآخر، و”حتى عندما نعرف بأنه لن يكون هناك نتيجة علينا أن نحاول. فالسياسة هي فن الممكن، وعلينا أن نعمل معهم بغضّ النظر عن رأينا السيئ بهم، ونشرح لهم أننا لن نتنازل عن حقوقنا، وسنتعاون معهم فقط على أسس المساواة” و”مع أن هذه اللقاءات لا توصلنا إلى أي شيء، ولكن كل شيء سيتغير”.
خلاصة القول.. هذا صراع طويل الأمد، وعلى نتيجته النهائية يتوقف مستقبل العالم بأسره. وكما كانت دمشق وعبر التاريخ “في مركز كل الأحداث الكبرى التي وقعت في هذه المنطقة”، فإنها اليوم تتموضع في قلب هذه “الأغلبية العالمية” التي تواجه الظالمين بحثاً عن حياة أفضل، وذلك دورها وقدرها أيضاً فهي العاصمة الأقدم في عالمنا الحالي والمدينة الوحيدة في كوكبنا التي ما زالت تعيش منذ آلاف السنين حتى الآن، وذلك ما فهمه جيداً “أمريكي” كبير، هو مارك توين، الذي قال يوماً ما: “ارجعْ بالتاريخِ قدرَ ما تشاءْ، لقد كانت دمشق موجودة دوماً عبر الماضي السحيق.. إن السنين تتوالى بالنسبة لها ساخرة من الوقت، فدمشق لا تقيس الزمن بالأيام والأشهر والسنين، وإنما بالإمبراطوريات التي شهدت نهوضها ودمارها”، فهل يقرأ “ساسة الصدفة” في بلاده ما قاله ويعتبرون به؟؟ أم ينطبق عليهم قولنا المأثور: ما أكثر العبر وأقل الاعتبار!!