الرّدع المفقود
طلال ياسر الزعبي
لا شك أن أهم نتيجة للردّ الإيراني الصاعق على العدوان الصهيوني على القنصلية الإيرانية في دمشق، أنه أسّس لمرحلة جديدة في المنطقة، إذ طرح بقوّة مسألة القلق الوجودي داخل الكيان على مختلف المستويات، ولا سبيل مطلقاً لاستعادة الردع المفقود الذي يُعدّ الحامل الأساسي لوجوده.
فمهما حاولت الحكومة الصهيونية وحلفاؤها الغربيون وبعض الأطراف في المنطقة التقليل من أهمية هذا الردّ من خلال وصفه بـ “المسرحية” المتفق عليها سلفاً مع الكيان وحلفائه “لحفظ ماء الوجه” – كما زعموا – فإن تداعيات هذا الردّ ستكون كبيرة ومزلزلة على الصعد كافة، فعلى الصعيد العسكري كانت النتيجة الأولى أن بُعد الكيان عن إيران ووجود بعض الحواجز الجغرافية لن يمنعه من الاستهداف، فضلاً عن نوعية الأهداف الحساسة التي تم تدميرها، ومن الناحية السياسية تعرّض الكيان لنكسة كبيرة لأنه لم يجد مَن يدين هذا الردّ سوى حلفائه، بينما تقبّلت سائر دول العالم الأمر بوصفه ردّاً على عدوان غير مسبوق على السيادة الإيرانية، وخاصة بعد التجاهل الغربي الواضح لإدانة العدوان الصهيوني في مجلس الأمن، الأمر الذي منح إيران مسوّغاً قانونياً للردّ عسكرياً على “إسرائيل”، وبالتالي انقلب الأمر إلى هزيمة سياسية مدوّية.
أما أهم نتائج الردّ الإيراني، فكانت على الصعيد الاستراتيجي، حيث مهّدت لما يمكن أن نسمّيه “فقدان الردع” الصهيوني ومن ورائه الغربي، لأن العملية تمّت بشكل معلن بعد تحذير الأطراف الغربية صراحة من التدخل مباشرة لنصرة الكيان ومهاجمة إيران، وهنا شعرت “إسرائيل” أنها لأول مرة تُركت وحيدة في مواجهة خصومها، حتى لو ادّعت بعض الأطراف أنها تمكّنت من إسقاط بعض الصواريخ والطيران المسيّر في مناطق نفوذها.
والحال أن “إسرائيل” التي شنّت منذ نحو ستة أشهر حرب إبادة ممنهجة على الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة المحاصر لترميم صورتها التي اهتزّت بعد عملية طوفان الأقصى المباركة في السابع من تشرين الأول الماضي، ولاستعادة شيء من نظرية الردع، وجدت نفسها بعد الردّ الإيراني تفقد هذا الردع بالكامل، حيث صارت أمام خياراتٍ وجودية صعبة، وارتدّت عليها حرب الإبادة بشكل سلبي بل كارثي.
وحتى لو قُدّر لها أن تقوم بمناورة هنا أو هناك للقول إنها قد تمكّنت من الردّ على إيران، وهو الأمر الذي لن تتمكّن من الإعلان عنه، لأنه ردّ على الردّ، وبالتالي إعلان حرب لن تجرؤ عليه، فإن ذلك لن يغيّر من المعادلة شيئاً، وهي أن العمر الافتراضي لهذا الكيان قد انتهى، ولم يتبقَّ سوى الإعلان النهائي عن الوفاة.
وخلاصة القول أن الكيان الصهيوني بات الآن يعيش أصعب حالات القلق الوجودي التي عرفها في تاريخه، فهو من ناحية لا يجب أن يسكت على صورته التي اهتزّت بعد أن شهد العالم هجوماً إيرانياً منسّقاً على أهم منشآته العسكرية وحوّلها إلى ركام مخلّفاً فيها عشرات القتلى من الضباط والجنود الصهاينة، ومن ناحية أخرى يجد نفسه عاجزاً عن الردّ على الردّ الإيراني، لأن ذلك سيضعه في حرب مباشرة معلنة ليس مع إيران فحسب، وإنما مع كامل محور المقاومة، وفي كلتا الحالتين الاستنزاف الذي تعرّض له على جميع المستويات منذ نحو ستة أشهر، وخاصة على الصعيد النفسي، ينبئ ببداية زواله من الوجود، وهو يفضل ذلك على حرب تكون هي السبب الرئيس في إزالته مباشرة.