دراساتصحيفة البعث

سويسرا.. الحياد الوهمي

هيفاء علي

أعلنت سويسرا مؤخراً أنها لن تنضمّ إلى معاهدة حظر الأسلحة النووية التي دخلت حيّز التنفيذ في عام 2021. للوهلة الأولى، قد يكون من الصعب فهم السبب وراء عدم انضمام سويسرا إليها، وهي نفسها لا تمتلك أسلحة نووية، والأكثر من ذلك أنها تخلت عن حيازتها منذ زمن طويل، وانضمّت إلى معاهدة حظر التجارب النووية في عام 1963 ومعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في عام 1969.

وفي عام 1988، تم حل فريق العمل الذي كان يتعامل مع هذه القضايا داخل الإدارة، باستثناء أنه إذا التزمت سويسرا بهذه المعاهدة الجديدة، فقد يشعر الأمريكيون بالاستياء. وهذا من شأنه أن يمنعهم في يوم من الأيام من مطالبة سويسرا بما طالبوا به وحصلوا عليه من دول أوروبية أخرى مثل ألمانيا وإيطاليا وبولندا وغيرها، أي الترخيص بتخزين الأسلحة النووية على أراضيها، إذ تجري المفاوضات حالياً مع فنلندا بشأن هذه المسألة، فلماذا لا تجري غداً مع سويسرا؟.

من الناحية الرسمية، سويسرا ليست جزءاً من حلف شمال الأطلسي، لكنها في الواقع هي جزء منه بالكامل، كما يتضح من مشاركتها العرضية في المناورات العسكرية لحلف شمال الأطلسي في أقصى الشمال. وفي عام 1996، انضمّت إلى الشراكة من أجل السلام التابعة لمنظمة حلف شمال الأطلسي، وبعبارة أخرى، سويسرا هي تابع للولايات المتحدة وحلف الناتو من بين دول أخرى، وفي بعض النواحي أكثر توافقاً من غيرها. وقد ثبت ذلك مرة أخرى من خلال الحرب في أوكرانيا، وبهذا المعنى، فإن الحياد السويسري هو مجرد وهم ولم يكن موجوداً لفترة طويلة، بل هو شبح تلوّح به السلطات بين حين وآخر لإبقاء مواطنيها هادئين، لكنه اليوم خالٍ من أيّ مضمون.

منذ حوالي ربع قرن، اكتشف السويسريون أن أجهزتهم الخاصة كانت متورّطة بشكل مباشر في تنفيذ برنامج “ايشيلون”، وهو برنامج تجسّس عالمي واسع النطاق تابع لوكالة الأمن القومي التي كان لديها محطة استماع عبر الأقمار الصناعية في سويسرا، في ذلك الوقت، كانت سويسرا شريك أقلية في برنامج التجسّس هذا، بمعنى أنه تم تبادل بعض المعلومات السرية مع السويسريين.

يمكن المقارنة هنا مع قضية الكريبتو، التي تم اكتشافها مؤخراً، والتي فتحت الحكومة السويسرية تحقيقاً فيها عام 2020، وهي قضية تجسّس حصلت من خلالها وكالة المخابرات المركزية ودائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية على آلاف الوثائق على مدى عقود من أكثر من 100 دولة عن طريق شركة كريبتو، ولكن تم التكتم عليها بسرعة كبيرة بعد ذلك، إلا أن العقل المدبّر في هذه الحالة لم يكن وكالة الأمن القومي، بل وكالة المخابرات المركزية. علاوة على ذلك، أصبحت قضية “كريبتو” الآن شيئاً من الماضي، بينما لا يزال برنامج التجسّس موجوداً، وقد نوقش هذا الأمر على نطاق واسع في عام 2013 خلال اكتشافات إدوارد سنودن حول هذا الموضوع.

في كانون الثاني 2024، نشرت وسائل الإعلام الإلكترونية الناطقة بالألمانية تحقيقاً علنياً حول مراقبة الإنترنت في سويسرا من أجهزة خاصة، حيث بيّنت أن جميع الاتصالات على الإنترنت يتم اعتراضها اليوم ومن ثم معالجتها باستخدام نظام من الكلمات الرئيسية لاستخدامها بعد ذلك لأغراض حفظ الملفات العامة، وهذا ما تفعله الأجهزة الخاصة اليوم في كل البلدان بذريعة “مكافحة “الإرهاب”.

ومن هنا، ينشأ سؤال عمّا إذا كانت المعلومات التي تم جمعها على هذا النحو تظل مدفونة في قواعد البيانات في سويسرا نفسها أم أنه لن يتم نقلها أيضاً إلى الأمريكيين عن طريق المصادفة. والجواب هو نعم على الأرجح، إذ لا يوجد سبب للاعتقاد بأن العلاقة التي أقيمت بين الخدمات الخاصة السويسرية ووكالة الأمن القومي في مطلع القرن قد انقطعت أو حتى خففت في هذه الأثناء، والعكس هو الأرجح، أو ربما تكون الشراكة من أجل السلام مجرّد صيغة لا معنى لها.

وبالعودة إلى الأسلحة النووية، فإن الأسلحة النووية الأميركية المخزنة في أوروبا هي في الأساس أسلحة تكتيكية، تتمتع بقوة مماثلة لقوة قنبلة هيروشيما، ولكنها أكبر منها، ووفقاً للمبدأ الأميركي الحالي لاستخدام الأسلحة النووية، الذي تم إضفاء الطابع الرسمي عليه منذ حوالي عشرين عاماً، هي أسلحة الضربة الأولى، بمعنى آخر يمكن استخدامها في سياق حرب تقليدية، أو إذا كان يفضّل الاستمرارية المباشرة معها.

وبالتالي، سويسرا تدير ظهرها بالكامل لاستراتيجية الردع، وهي استراتيجية تقوم على فكرة أن الأسلحة النووية هي سلاح منفصل، ربما تم صنعه للتلويح به، لكنه لم يستخدم قط. إن استخدامه سيشكل بالفعل فشلاً في الردع. أما في سويسرا فعلى العكس من ذلك، هي تنزلق دون انتقال من الحرب التقليدية إلى الحرب النووية، وهكذا تختفي العتبة النووية، ومن الواضح أن الأسلحة النووية الأميركية المخزنة في أوروبا تشكّل جزءاً من استراتيجية الهجوم الوقائي، وليس مجرد الدفاع. والنتيجة هي أنه إذا تم استخدامها، فإن البلدان المضيفة ستدفع ثمناً باهظاً، ومن المؤكد أنه سيتم محوها من الخريطة، وفي تلك اللحظة بالذات.

وبالتالي فإن حقيقة تخلي الحكومة السويسرية في نهاية المطاف عن التوقيع على معاهدة حظر الأسلحة النووية ليست في حدّ ذاتها مجرّد رواية، وربما استسلمت سويسرا للضغوط الأمريكية في هذه الظروف. وهنا يبرز سؤال: ماذا سيحدث في اليوم الذي سيطلب فيه الأميركيون من الكونفيدرالية استضافة مخزون من الأسلحة النووية على أراضيها؟  وخاصة أن عدداً من الدول الأعضاء في الناتو رفضت إقامة مثل هذه المستودعات على أراضيها. وهذا هو الحال بشكل خاص بالنسبة للنرويج والدنمارك، ومن الممكن أن تقول سويسرا أيضاً لا، فهل ستكون قادرة على قولها اليوم؟ يتساءل مراقبون.