الكتاب في يومه العالمي
جمان بركات
في زمن لا يشبه هذا الزمن، أطلق الشاعر فولتير مقولته: “ليت الكتب تحكم العالم”، لكن للأسف هذه الأمنية لم تتحقق ولم يعد الكتاب خير جليس، ولا وجود مهمّاً له في حياتنا، وقد يتذكره بعضنا فيزور المعارض التي تُقام لأجله لمجرد الزيارة غالباً وليس للشراء، إذ إن أسعار الكتب لم تعد تحتمل، وهذا يؤكد أن الكتاب في تراجع، ونحن هنا نتحدث بشكل عام دون أن يغيب عن بالنا أن بعض الكتب التجارية تحقق رواجاً وتجتذب فئات معينة، لأن المقياس في إنتاج الكتاب هو احتمال رواجه كمنتج تجاريّ لا ثقافي، لكن السؤال الذي يحضر هنا والعالم يحتفي باليوم العالمي للكتاب، لماذا يتراجع الكتاب وهو الذي كان إلى وقت ليس بالبعيد يحتلّ مكان الصدارة في حياتنا الثقافية؟ وهل عزفنا عن القراءة وفقدنا عادتها، إذ يلاحظ أن الشريحة القارئة هي الشريحة المتوسطة، هذه الشريحة القارئة التي كنّا نراها دائماً في معارض الكتاب ومخازن الكتب لم تعد موجودة، وكذلك الشباب الذين كانوا قطاعاً كبيراً من القراء، أما الآن فإنهم لا يستطيعون شراء الكتاب بسعره الراهن؟.
وكي لا نذهب بعيداً أتحدث عن معاناتنا نحن في كثير من معارض الكتب التي نرتادها، حيث كنّا نجد عدة كتب جيدة، ولكن لم نكن نمتلك الإمكانيات المادية لشراء كل ما أردنا شراءه، مع أن المعارض كما نعرف هي مناسبة للتخفيض في أسعار الكتب، مع الأخذ بالاعتبار أن غلاء سعر الكتاب ليس السبب الوحيد، لأن هذا السبب ليس معزولاً عن الأسباب الأخرى، والارتفاعات في الأسعار عامة تضطرنا لوضع أولويات للشراء يستبعد منها الكتاب، لكن هناك من يرى أن مسألة الكتاب والعزوف عن قراءته تعود إضافة لما ذكرنا إلى أسباب ثانية، كمزاحمة الوسائل الإعلامية والتلفزيون تحديداً، والجميع يعرف أن هذه المزاحمة مهمّة، وسبب آخر هو ما مرّ به العالم في السنوات الأخيرة من تخبطات وحروب وأوبئة أدت لإصابة الناس بإحباط رهيب.
وحتى نكون منصفين للكتاب والقراءة فإن القارئ موجود والناس يقرؤون لكن يعوزهم المال الكافي لاقتناء الكتاب، ومن خلال متابعتي لمعارض الكتب التقيت بعدد هائل من الناس في هذه المعارض كانوا يتصفحون الكتب ويقرؤون أيضاً في كثير من الأحيان، وقد تسنى لي أيضاً مراقبة الأطفال في مكتبة للأطفال فاكتشفت شيئاً جديداً وهو أن عدداً كبيراً من الأطفال يقلِّبون الصفحات وهم يقرؤون القصة بحجة أنهم يريدون معرفة موضوعها، ثم يغادرون المكتبة دون أن يشتروا شيئاً لأنهم لا يملكون المال اللازم.
وإضافة لكل ما ذكر أعتقد أن هناك عدة مشكلات متعلقة بمسؤولية دور النشر ووسائل الإعلام والتوجّه العام الذي يحيط بالثقافة، إذ لها علاقة بعصر محدّد ويجب أن تستجيب لمتطلبات هذا العصر.
نقطة أخرى أطرحها كقارئة أحتاج القراءة في ميادين متعدّدة، منها الأدب والتاريخ والفن والفلسفة والعلوم، أي أنني أحتاج لفتح خمسة كتب لأحصل على ما أريده، لكن الكمّ المنتج الآن من الكتب هو كمّ هائل إلى درجة أصبح يستحيل عليَّ ملاحقته، وما يحدث هو أنني أقوم بشراء الكتاب، وغالباً ما أفعل ذلك على حساب حاجات أخرى ضرورية أو كمالية، فأكتشف فجأة أن هذا الكتاب لا يلبي حاجتي، رغم أن عنوانه يدخل ضمن اهتماماتي، كما أكتشف وجود عشرات العناوين المشابهة، ومن أسف أنه لا توجد لدينا أية جهة متخصّصة كما هو موجود في أوروبا تعطيني ملخصاً عن الكتاب الذي أريد وتوجّهه وقيمته حتى أعرف مسبقاً ماهية ونوعية وقيمة الكتاب الذي سأحصل عليه، وفي كثير من الأحيان أقع في ورطة وأدفع مبالغ كبيرة ثمن كتب مترجمة تهمني لأكتشف قبل أن أتمّ بعض صفحاته سوء الترجمة، ذلك أنني انسقت وراء اسم المؤلف ولم يخطر ببالي نهائياً أن تكون الترجمة بهذه الرداءة، ولو كان هناك جهة تتولى تقويم الترجمة وتمدّ الراغبين بهذا التقويم لما وقعت أنا وغيري في هذه الورطة، إضافة إلى أن أي دار نشر لديها رسالتها الأدبية والثقافية يفترض أن يكون لها مجموعة من القراء ذوي الخبرة على مستوى الوطن العربي لقراءة ما يكتب ويترجم وتقويمه وتلخيصه وتقديمه للقارئ، هذه المرجعية في الواقع غير موجودة لدينا، وبالمحصلة كلّ ما نراه على مستوى الثقافة، بما في ذلك الكتاب، لا يملك أي توجّه محدّد في نطاق الانتماء إلى العصر، وأزمة الكتاب هي جزء من أزمة الثقافة العربية ككل، ومادام المثقف موضع شك دائم فإننا لن ننجح عربياً في تسويق قيمنا الثقافية عالمياً، وإن مجرد التفكير بالمثقف والثقافة بهذه الطريقة يشير إلى النتائج التي تعيشها الثقافة العربية في الوقت الحاضر، ومنها تراجع الكتاب على هذا النحو المزري.
اليوم تهيّئ المكتبات الرقمية ظروف توفر الكتاب الإلكتروني والوصول اليسير للقراء أينما كانوا، رغم أنه ليس الجميع سعداء بالكتاب الإلكتروني وما حققه من تطورات على صعيد النشر والتأليف والترجمة والتوزيع والوصول اليسير للقراء أينما كانوا، ولا تزال المعركة محتدمة بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني، والإقبال اللافت الذي تشهده المكتبات ودور الكتب ومعارض الكتاب العربية السنوية تخبرنا بأن الكتاب الورقي لازال يحتفظ بجاذبيته وخصوصيته وأنصاره، وفي ظلّ الظروف السيئة التي نعيشها تشكل مناسبة الاحتفاء باليوم العالمي للكتاب نافذة للإطلاع على ما أبدعته العقول والثقافات لتجديد العلاقة والصداقة مع الكتاب وإعادة الاعتبار له كخير جليس، وتحفيز قدراتنا الذهنية والإبداعية.