دراساتصحيفة البعث

سيناريو النووي البولندي.. رعبٌ أمريكي في وسط أوروبا

طلال ياسر الزعبي

لا شكّ أن الولايات المتحدة الأمريكية تمارس سياسة فريدة في التعاطي مع الدول الأوروبية، ففي الوقت الذي تدّعي فيه أنها حريصة على الأمن الجماعي للدول الأوروبية، تلتزم معايير خاصة في التعاطي مع هذه الدول وفقاً للتقسيم الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية هناك، ولكن الدول الأوروبية غائبة تماماً عن فهم السياسة الأمريكية الحقيقية إزاء هذه القارة.

فمن الخطأ الاعتقاد أن واشنطن يمكن أن تكون وفيّة لأيٍّ ممّن تعدّهم حلفاء لها في العالم، لأن الناظم الأساسي لعلاقاتها مع الآخر الأطلسي، هو ناظم المصلحة الأمريكية فقط، وبالتالي تستطيع واشنطن أن تتجاوز حلفاءها في كثير من المسائل التي يعارضونها فيها وتتخذ قراراً منفرداً دون العودة إليهم، كما حدث في العدوان الأمريكي على العراق عام 2003.

ومن هنا فإن الولايات المتحدة عندما تشعر أنها لا تستطيع المضيّ بسياسة معيّنة بمباركة ألمانيا أو فرنسا مثلاً مع كل الثقل الوازن للبلدين في الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي “ناتو”، تلوّح مباشرة بالاستغناء عنهما واستبدالهما بطرف ثالث ربما يكون في حقيقة الأمر ندّاً حقيقياً لهما، أو مجرّد مطيّة لإغاظتهما، كما حدث عندما طرحت واشنطن استبدال الدولتين بدولة من المعسكر الشرقي السابق وهي بولندا ذات الطموحات التوسّعية الكبيرة في أوروبا، التي لا تزال تحلم بإعادة أمجاد إمبراطوريّتها السابقة، وتحقيق هذه الأحلام يقتضي طبعاً تغيير الحدود السياسية للبلدان الأوروبية التي أفرزتها نتائج الحرب العالمية الثانية، فهذا البلد يحلم باستعادة أجزاء واسعة من الغرب الأوكراني يدّعي أنه تم اقتطاعها منه على خلفية النتائج النهائية للحرب العالمية الثانية، ولا يخفي عداءه التاريخي لروسيا ورغبته في تدمير هذا البلد ليتسنى له البروز مجدّداً على الخريطة السياسية الأوروبية.

وأيّاً يكن من أمر هذه الطموحات، فإن إعلان الرئيس البولندي أنجي دودا، في مقابلة مع صحيفة Fakt، أن سلطات بلاده مستعدّة لنشر الأسلحة النووية الأمريكية على أراضيها، يؤكّد مجدّداً أن هذا البلد لديه طموحات كبيرة في تغيير الوضع العام في أوروبا بما يتناسب مع هذه الطموحات، حتى لو كان ذلك على حساب مصالح حلفائه الأوروبيين الذين كان حتى وقت قريب يشترك معهم في دعم أوكرانيا وصولاً إلى الهدف العام وهو هزيمة روسيا استراتيجياً وتدميرها واستعمارها ونهب ثرواتها، وذلك لأن اللاعب الأمريكي قرّر اللعب على جزء من التناقضات الموجودة في أوروبا خدمة لمصالحه أوّلاً، وتأديباً لكل الحلفاء الذي تسوّل لهم أنفسهم معارضة واشنطن في رغباتها ثانياً، وعلى رأس هؤلاء فرنسا وألمانيا اللتان أبدتا رغبة سابقة في تشكيل جيش أوروبي موحّد يكون بديلاً عن حلف شمال الأطلسي “ناتو” الذي تتحكم واشنطن به بالكامل.

وعلى هذا الأساس جاء ردّ المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا صاعقاً عندما تحدّثت عن أن ظهور أسلحة نووية أمريكية في بولندا سيجعلها هدفاً مشروعاً لأيّ ضربة روسية في حال اندلاع صراع مباشر مع الناتو، لأنها تدرك جيّداً أن “القيادة البولندية لم تخفِ طموحاتها لفترة طويلة فيما يتعلق بكيفية التشبّث بالأسلحة النووية الأمريكية المتمركزة في أوروبا واستخدامها بنشاط في سياستها العدائية العميقة تجاه روسيا”، وهي بالتالي تسعى بشكل مهووس إلى جذب اهتمام أكبر بها، وهذا طبعاً ضمن الأهداف الحقيقية التي تسعى إليها.

هذا الردّ استدعى مباشرة استدراكاً سريعاً من رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك الذي قال: إنه يريد لقاء رئيس البلاد دودا ومعرفة ما دفعه إلى الإدلاء بهذه التصريحات حول احتمال نشر أسلحة نووية في البلاد، حيث إن تصريح دودا يمسّ بشكل مباشر وواضح الأمن البولندي القومي، مؤكّداً أن “هذه الفكرة ضخمة وجدية للغاية”.

ولكن توسك ذاته كان قد أشاد في وقت سابق من هذا العام بوعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمشاركة بلاده للأسلحة النووية مع أوروبا، وقال: “آخذ على محمل الجدّ كلمات الرئيس ماكرون باستعداد فرنسا لتزويد أوروبا بقدراتها النووية”، مشيراً إلى أن وارسو تعدّ التهديد الذي تمثله موسكو أمراً ملحّاً.

وهذا الطموح ورد على لسان غير مسؤول بولندي، الأمر الذي يؤكّد أنه يشكّل أولوية لدى الساسة والعسكريين البولنديين على حدّ سواء، حيث أكد العميد السابق في مكتب الأمن القومي البولندي ياروسلاف كرازيوسكي في وقت سابق من هذا العام، أن على سلطات بلاده النظر إلى مسألة امتلاك ترسانة نووية كأولوية في غضون السنوات المقبلة.

وقال الرئيس السابق لقسم الإشراف على القوات المسلحة في الأمن القومي البولندي في حديث إذاعي: “تلك (الدول) التي تمتلك قدراتٍ نووية تتمتع بمستوى عالٍ جداً من الأمن. عادة لا تجري مهاجمة مثل هذه البلدان”.

وربّما تكون العبارة الأخيرة هي التي بنت عليها واشنطن تحريضها للقادة البولنديين، وزيّنت الأمر في مخيّلتهم، فمنذ متى كان وجود سلاح نووي على أرض بلد معيّن مؤشّر أمن له أو مدعاة لذلك، حيث كان التهديد الروسي واضحاً لبولندا بأنها ستكون عرضة للاستهداف الصاروخي الروسي بمجرّد نشر السلاح النووي الأمريكي على أراضيها، فهي بالمحصّلة، أي بولندا، ليست دولة نووية حتى تتمكّن من حساب قدرتها على التعامل مع الخصوم النوويين الحقيقيين، والولايات المتحدة تقف على مسافة آلاف الأميال من الصواريخ النووية الروسية، والصراع النووي يأخذ في الحسبان أوّلاً القدرة على توجيه ضربة سريعة ومباغتة وقاتلة في الوقت ذاته، وهذا لا تمتلكه وارسو، في الوقت الذي تستطيع فيه موسكو تحقيقه في ثوانٍ معدودة.

وفي وقت سابق، تجنّب مدير مكتب الأمن القومي البولندي ياتسيك سيفيرا في مقابلة صحفية، الإجابة عن سؤال أحد الصحفيين عمّا إذا كانت وارسو ستبرم اتفاقاً مع واشنطن بشأن نشر الأسلحة النووية على أراضيها في إطار برنامج تقاسم الأسلحة النووية المماثل لدى حلف الناتو، ولكنه أشار إلى أن “المظلة النووية” لحلف شمال الأطلسي آخذة في التوسّع وإلى بولندا.

فإذا كان الأمر على هذا النحو بالفعل، من عمل واشنطن الدؤوب على نشر أسلحتها النووية على كامل الأراضي الأوروبية لتهديد روسيا وردعها نووياً، إن لم يكن تحسّباً لحرب نووية وشيكة بين الطرفين، تحاول فيها واشنطن أن تكون الأقرب إلى إيذاء روسيا بفعل وجود صواريخها على حدودها، فما مصلحة الدول الأوروبية الحقيقية في سيناريو كهذا يتم بين أكبر دولتين نوويتين في العالم، وهل ينبغي على أوروبا أن تتعرّض للدمار من جديد في حرب تخوضها الولايات المتحدة بالوكالة مع روسيا على الأراضي الأوروبية.

لا شك أن القدرات الروسية في التعامل مع هذا النوع من الحروب، وخاصة مع امتلاكها صواريخ فرط صوتية غير مسبوقة في قدراتها في أيّ من دول العالم، يمكن أن تؤهّلها لصدّ أيّ هجمات من هذا النوع على أراضيها إذا قُدّر لها فعلاً أن تتعامل مع الترسانة النووية الموجّهة ضدّها من الغرب مجتمعاً، ولكن ماذا عن السيناريو المرعب الذي تتم كتابته لأوروبا من “الحليف الأمريكي”، ولماذا ينبغي تدمير أوروبا مرّة أخرى خدمة لواشنطن؟.