صعود النزعة الإقليمية في شرق آسيا
عناية ناصر
تقف منطقة شرق آسيا الآن على مفترق طرق، وهناك الكثير من المشكلات التي من شأنها أن تدمّر السلام والتنمية في المنطقة. ويظل المشهد الجيوسياسي للمنطقة راسخاً في ظل النزاعات الإقليمية المثيرة للجدل، مثل القتال في جزر سينكاكو-دياويو بين اليابان والصين، الذي استمرّ فترة طويلة، والنزاع في بحر الصين الجنوبي، الذي يشمل الصين ودول جنوب شرق آسيا الأخرى. ونظراً للتعقيدات التي تتسم بها التحدّيات المعاصرة، من الواضح تماماً أنه لا بد من تشكيل إقليمية شرق آسيا السياسية والاقتصادية.
إن خلق الثقة والتعاون بين الدول هو أحد أهداف الإقليمية السياسية، لكن الإقليمية المالية يمكن أن تحفّز النمو والتنمية على المدى الطويل. ومن خلال تنسيق جهودها، تستطيع دول شرق آسيا معالجة التحدّيات المتكرّرة التي تواجهها وخلق الظروف المواتية لمستقبل أكثر سلاماً وازدهاراً للمنطقة بأكملها.
وكحل قابل للتطبيق بالنسبة لشرق آسيا، فإن النزعة الإقليمية السياسية والاقتصادية تستلهم أنموذج رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وهو تكتل من دول جنوب شرق آسيا حقّق نجاحاً ملحوظاً. من هنا إن قدرة الآسيان على الحفاظ على التوازن من خلال التحرّكات المشتركة أمر يستحق الثناء. تشمل المبادرات البارزة التي أدّت دوراً حيوياً في تعزيز الازدهار الاقتصادي والتنمية منطقة التجارة الحرة لرابطة دول جنوب شرق آسيا (الأفتا)، كما أن هذه الإنجازات لا تُظهر فقط كيف يمكن أن تكون الإقليمية الحديثة، بل إنها تزوّد دول شرق آسيا أيضاً بخريطة طريق.
إن المؤسسة التجارية التي تجسّد إمكانات النزعة الإقليمية السياسية والمالية في سدّ الانقسامات التاريخية وتعزيز التقدير المتبادل هي رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان). ولتعزيز بيئة مواتية للتعاون، فإنها توفر منصّة حيث يمكن للمواقع الدولية ذات الأيديولوجيات السياسية المتباينة أن تلتقي وتكتشف أرضية مشتركة. علاوة على ذلك، النزعة الإقليمية المالية قد تؤدّي إلى نمو كبير بمساعدة توحيد الدول المشاركة في ضغط اقتصادي فعّال يعود بالنفع على الجميع.
وعلى الرغم من المزايا المحتملة للنزعة الإقليمية، إلا أن شرق آسيا يواجه مجموعة واسعة من العقبات في اتجاه التعاون. فالتوترات التاريخية ذات الجذور العميقة تجعل من الصعب للغاية تنفيذ الجهود الإقليمية مثل نزاعات اليابان الإقليمية مع كوريا الجنوبية والصين. لذلك إن التغلب على مثل هذه العداوات التي طال أمدها يتطلب البراعة الدبلوماسية والتفاني في بناء الثقة، وما يجعل الأمور أكثر تعقيداً هو أن التعاون الإقليمي يصبح أكثر صعوبة بسبب الصراع الدائر في شبه الجزيرة الكورية. إن الكثير مما يحدث في المشهد الجيوسياسي في شرق آسيا يتشكل بوساطة قوى خارجية فعّالة، أبرزها الولايات المتحدة. ونظراً لوجودها العسكري الطويل الأمد ومشاركتها في معارك سابقة مثل الحرب الكورية وحرب فيتنام، تواصل الولايات المتحدة الأمريكية لعب دور واسع النطاق. ويتعيّن على دول شرق آسيا أن تستوعب البيئة الخارجية المتغيرة باستمرار إذا كانت راغبة في صياغة مسار أقرب إلى التعاون الإقليمي.
إن القدرة على فهم الإقليمية السياسية والاقتصادية تعدّ عنصراً ضرورياً في التنبّؤ بنجاحها أو فشلها. وقد تكون رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) هي الأنموذج الحقيقي، حيث عزّزت التعاون والاستقرار في الماضي. ونظراً للقوة السياسية والمالية التي تتمتع بها الصين، من الواقعي الافتراض أنها ستقود المبادرات الإقليمية، مع تقديم اليابان معرفتها الفنية وأصولها المالية لتعزيز التنمية الإقليمية.
ومن أجل السيطرة على العمليات المشتركة بكفاءة، من الأهمية بمكان اختيار جهة فاعلة مختصة، ويتعيّن على الحكومات تقييم مهارات القادة المحتملين واستعدادهم. إن التغلب على هذه التحدّيات وتشجيع التعاون بين حكومات شرق آسيا يتطلب استخدام إجراءاتٍ دبلوماسية. وكجزء من استراتيجية كاملة، يجب أن يشمل بناء الثقة التواصل المفتوح، وطرق حل القتال، والمساعي الاقتصادية المشتركة. وتدعم هذه الأفكار آراء الدكتور مارتي ناتاليجاوا وزير الخارجية الإندونيسي السابق التي توضح مدى أهمية الإقليمية السياسية والاقتصادية لتحسين استقرار شرق آسيا.
وقد تبيّن أن الحاجة إلى الإقليمية السياسية والنقدية في شرق آسيا تستند إلى اعتبارات فعلية بدلاً من كونها مجرد مفهوم تعليمي. إن النجاحات التي حققتها رابطة دول جنوب شرق آسيا توفر سبباً للتفاؤل بإمكانية إيجاد حلول تعاونية للقضايا التي تعاني منها المنطقة. يمكن لدول شرق آسيا أن تضع خلافاتها جانباً، وأن تعمل معاً لمعالجة المشكلات الملحّة، وخلق مستقبل أكثر إشراقاً وأكثر سلمية إذا أضافت الإقليمية السياسية والاقتصادية. وبما أن التعاون الإقليمي يشكّل ضرورة حتمية لاستقرار المنطقة وازدهارها، فيتعيّن على الدول الأعضاء أن تعطيه الأولوية. وإذا اتّبعت منطقة شرق آسيا هذا المسار، فقد تتمكّن من التغلب على تحديات تواجهها وتصبح مثالاً للتعاون الإقليمي الناجح على الساحة الدولية.