ثقافةصحيفة البعث

العولمة والإنسان الكوني

سامر خالد منصور

قد يقول قائل: ما الضير في العولمة، وجعل كل الناس ينشدون التكلم بلغة واحدة ويتبعون ذات نمط الحياة واللباس والعمران، إلى آخره، لشعبٍ آخر سبقهم على دروب التقدم والحضارة؟ ألم يكن سقراط يرفض دائماً القول إنه مواطن أثيني وكان يقول: “أنا مواطن كوني”.

هل نستدل من مقولة سُقراط هذه أن العولمة مسألة طبيعية وربما قَدر؟

بالطبع لا، فهناك فارق بين أن تكون إنساناً كونياً، وبين أن تكون ضحية العولمة التي تُمارس اليوم. إن الذي قصده سُقراط في جُملة مَقاصده حين قال مَقولته تلك، الحُريّة، أي التحرر من الأيديولوجيا المُنغلقة إلى حدٍّ ما، في أثينا، وإطلاق العنان لنفسه لكي تُفكر بما يتسامى بالإنسان في كل زمان ومكان، بينما العولمة التي تمارسها الرأسمالية العالمية وتحديداً عولمة نموذج الحياة والتفكير للمواطن الأمريكي، فهي محاولة لتشويه الإنسان وجعله عابداً للمال والشيء ومُرتهن بوقته وبأبعاده النفسية للثقافة الاستهلاكية، وجعل مُقتنيات الشخص هي معيار الآخرين في تقييمه وليس سلوكه وأخلاقه، وتالياً، هذا نقيض ما قال به سقراط وما نادى به متنورو عصر النهضة ومنهم المحامي الفرنسي الأكثر تأثيراً في الثورة الفرنسية ماكسميليانروبسبير” على سبيل المثال الذي قال: “كُل شعوب العالم إخوة لنا”.”

إن العولمة الأمريكية ـ عرابوها اليوم الليبراليون الجُدد ـ هي حركة مُضادة بمفاعيلها، لما نادى به كبار المفكرين والمناضلين في عصر النهضة والتنوير، فهم يريدون نقل العالم من تَصدّر المفاهيم الثقافية لهرم أولويات ما يجب صيانته في الحياة الاجتماعية، إلى جعل الثقافة مُرتهنة للسياسة التي هي بدورها مُرتهنة لأصحاب رؤوس الأموال الكُبرى.

رفعت مجتمعات عصر النهضة شعارات مثل المساواة والعدل، والحقوق، والواجبات، وهنا نلحظ أن كلمة حق تسبق كلمة واجب، وقد امتدت المناداة بهذه المفاهيم لتشمل العالم بمعنى المساواة بين الناس حول العالم والأخوّة الإنسانية، لكن الليبراليين الجُدد يسعون إلى قلب الطاولة على قيم ومُثل حضارات وشعوب العالم، وإلقاء الإنسان في حالة من الفوضى الخلّاقة لمكاسب ونفوذ يمنحهم مرابحاً ماليَّة.

فوضى اجتماعية وأخلاقية عبر ضرب منظومة الأسرة وضرب بعض أنظمة الحُكم في الدول النامية، ودعم عددٍ من الحركات الانفصالية حول العالم، وذلك تحت شعار عدم جواز توجيه اهتمامات القُصّر من قِبل الراشدين، لأن ذلك يُقولب شخصيتهم ويتعارض مع مفهوم حريّة الإنسان، بينما حقيقة الأمر هو رغبة اللبراليين الجُدد بتوجيه الأجيال الصاعدة عبر نجوم الـ”سوشيال ميديا” خاصة المُغنين والراقصين والـ “فاشينيستا” والـ”يوتيوبرس” والـ”بلوجرس” وسائر هؤلاء ممن يَتمنبر عبر منصات وشركات كبار الرأسماليين العالميين، ويسهل توجيهه والإملاء عليه.

إن هذا نقيض ما كان يقول به كبار مُفكري القرون الثلاثة الأخيرة من الألفية الثانية، مثال ذلك “أوغست كونت” الذي رأى أن علم الاجتماع ليس سوى قاعدة فلسفية تدعم السياسة لبناء عالم منظم، والتنشئة فيه مدار لتوحيد العالم بشكلٍ ما.

بينما الليبراليون الرأسماليون الجُدد يرون أنه يجب إعادة تشكيل الإنسان والعالم بحيث يحصلون على أكبر قدر من القوّة البشرية العاملة والمهووسة بالاستهلاك و المِتلافة في آنٍ معاً، لأن هذا يُحقق سُرعة أكبر لدورة رأس المال، فالموضة في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال تتغير كل فصل من فصول السنة ويُنظر إلى من يرتدي ثياباً من موضة الصيف الماضي، كما يُنظر إلى من يرتدي ملابس طرزان المكونة من أوراق النباتات، إن هو تجوَّل بيننا اليوم.

العجيب أن الأوروبيين هم أول المُنساقين خلف هذه العولمة التي تنقض كل ما كانت تنادي به نُخبهم، نحن لا نتحدث هنا عن القيادات الأوروبية للدول الاستعمارية فهي مُنافقة تمارس سياسة الكيل بمكيالين تجاه الآخرين على امتداد تاريخها، لكننا نتحدث عن نسبة عالية من المواطنين الأوروبيين، والسؤال هنا لماذا لم يرتفع صوت النخب الثقافية والفكريَّة الأوروبية في مواجهة كل هذا، كما حدث في مَطلع عصر النهضة؟! هل أدركت الرأسمالية العالمية أهمية شراء ذمم النُخب أو حجبها عن المنابر أو عزلها إن هي خالفتها؟.

إن العولمة التي يمارسها الليبراليون الجُدد هي شكل من أشكال الاستلاب، وعدوى لحُمى الاستهلاك والسطحية، وليست شكل من أشكال التَجسير والتواصل والانصهار في بوتقة إنسانية جامعة، وتالياً هي أسوأ أشكال العولمة التي شهدتها الشعوب وهي حالة مُضادة للتثاقف الإنساني، لأنها لا تحترم الهوية الحضارية للآخر.