الكتابة.. مُساهَمَة في التّغيير
وجيه حسن
في مطلع هاتِهِ الدراسة، على تَواضُعِها، علينا الإقرار والاعتراف بكثرة كاثرة من البشر والأناسِيِّ بهذه الأرض المُترامية الأطراف، يحلمون أحلاماً ورديّة جميلة بروعة الحياة واتّساقها، ولا يتبادرنَّ إلى ذهن بعضهم هذا السؤال السّاذج البسيط: مَنْ ذا الذي سيجعل الحياة رائعة مُزَرْكَشة بألوان قوس قزح، إذا كنّا سنحلم فقط؟! وفي الجواب نقول: “إلى جوار هاتِه الكتلة الرماديّة المُملّة من الأشخاص العاجزين المتسكّعين غير الواعين، وغير المثقفين، وغير الوطنيين الحقيقيين، لا يمكن لهؤلاء وأشباههم صُنْع حياة رغيدة ورديّة ملسَاء لوطنهم، ولأبناء جِلدتهم”.
عليه ينبت القول بتساؤل: هل بأمثال هذه الحَراشِف الآدميّة السّمكيّة، الذين يتصرّفون بمصائر الناس وحَيواتِهم، في هذا الموقع أو ذاك، في هذه الدائرة أو تلك، تصرّف المالك بأرضه وأملاكه، يكون النجاح والتقدّم والارْتقاء؟
ومن أسف بالغ الإيجاع، أقول: “هناك في بلداننا العربية أناسٌ أنانيّون كأنانيّة الأطفال، ذابلون كما الشّيوخ، لا يقدّمون لبلدهم أيّ خير، أو أدنى نفع يُذكَر، بل يعملون بنرجسيّةٍ طاغيةٍ على تهريم أموالهم، وزيادة رساميلهم بغير وجه حقّ، ومنهم مَنْ يلجأ لأجل هذا إلى أعمال وتصرّفات وترّهات وخزعبلات لا تمتّ إلى الأخلاق والتربية والثقافة الوطنية، والوعي الاجتماعي بأيّ صلة”.
الكاتب الوطني الحقيقي الخلوق، الصّادق بينه وبين نفسه، والأمين على صنْعته وحرْفته، هو ذاك الإنسان الذي يتمتّع بفنّ اكتشاف الجوانب المُبتذَلة، والشخصيات الهزيلة في المجتمع قصْد تعريتها على الملأ، وفضْح تحرّكاتها أمام سطوة الشمس “رائعة النّهار”، وهو الكاتب النبيل الذي يسمح لنفسه أن تقول بجرأة عالية، لهؤلاء ولأمثالهم: “فلتكونوا أكثر نزاهة، وأبرز استقامة، وأعظم فكراً، فالوطن، لأجل إعلاء شأنه، يحتاج إلى مثل هذه القيم”..
ألم يقل لنا مدرّسو الرّياضيات ونحن على مقاعد الدراسة: “إنّ أقرب مِسافة بين نقطتين هو الخطّ المستقيم؟!”، ثمّ ألم يخاطب ربّ العزّة، جلّ جلاله، أحد أنبيائه بالقول: “فاستقِمْ كَمَا أُمِرْت”؟، وفي كلامنا الشّعبي المُتداوَل، تقول الأمّهات والجدّات: “امشِ عدل يحتار عدوّك فيك”؟!
تأسيساً على ما ورد، فإنّ الكاتب الحقيقي يمقت كلّ ما هو رخيص مُبتذَل، كلّ ما هو ساقِط، كلّ ما هو فاسِد، كلّ ما هو سُوقيّ، لأنّ الحياة لا تتّضح ملامحها جَليّة باتّباع مثل هذه المواقف الهزيلة السّاقطة وأمثالها، والكاتب الصّادق الصّريح، هو الذي يعافُ النّذالة، ويُعرّي سوءات المُسِيئين، ويسلّط الضوء على الهنّات والسّقطات والمواقف الرّخيصة، قصْد تخليص المجتمع من أدْوائِه وعلله والأمراض، لأنّ الكاتب الحقيقي الفذّ، يعدّ ذلك جزءاً من مشروعه التّنويري بالحياة، ولأنّه على قناعة تامّة غير منقوصة، أنّ هناك أناساً في المجتمع، لا يعرفون كيف يحترمون كرامتهم الإنسانيّة، وكرامات الآخرين من عباد الله، ويعيشون مستسلمين من دون أدنى مقاومة للقوة الغاشمة الفاسِدة المُعشّشة في نفوسهم..
والكاتب الوطني الصادق عدوٌّ شرس للابتذال، والتسيّب، والفساد، والفوضى، والسّرقة، والسّقوط الأخلاقيّ، وهو الذي يبقى على موقفه هذا طوال حياته، يسخر من المُبتذلين والمُتسيّبين والفاسدين والهامشيين والفوضويين، ما شاءت له السّخرية اللاذعة، والنّقد البنّاء، وهو الذي يصوّر هؤلاء ومَنْ دارَ في فلكهم، ومَنْ أيّدهم وناصرهم أبشع تصوير، غايته بالبدء والمُنتهى: تعريتهم، وتعرية مواقفهم الهزيلة، وسلوكاتهم الدّنيئة، علّهم بهذا يَرْعَوون ويفهمون ويدركون، فتصحو ضمائرهم بعد رقاد طال أمده، وتعود إليهم عقولهم وأفئدتهم الغائبة أو المُغَيَّبة، قبل فوات الأوان، وهذا لا بدّ آتٍ لا محالة، إنْ عاجلاً، وإنْ آجلاً..
بهذا المعنى يقول الأديب والناشط الروسي المعروف، مؤسّس مدرسة الواقعية الاشتراكية “مكسيم غوركي”: “في مرحلة الصّبا يبدو الابتذال شيئاً مضحكاً وتافهاً كأصحابه ومُعتنِقِيه وحسب، يحيط بالإنسان تدريجياً، ثمّ ما يلبث أنْ يتغلغل بضبابه الرّمادي في عقله وفي دمه كالسمّ الزّعاف، وكالدّخان الخَانِق، فيغدو الإنسان حينئذٍ أشبه ما يكون بلافتةٍ عتيقةٍ أكلَها الصَّدأ”.
إذاً.. الكاتب الحقيقي، الأمين على حروفه وكلماته وعباراته، وعلى المضامين والفحاوَى، مدعوّ بأمانة دائماً ـ في كلّ عصر ومصر – إلى تغيير المفاهيم الباطلة، والأفكار السوداء، لدى أفراد مجتمعه، وهو ـ أي الكاتب ـ يؤدّي عملاً مهمّاً في الحياة، بل عملاً مهماً جداً، وهو الذي يعمل على تخليص أفراد المجتمع من كلّ التّوافه الباهظة، التي تشوّه الوجه الحقيقي، والرّوح الحيّة البيضاء عند الناس الأصحّاء الأنقياء..
وفي كلّ كتابة من كتابات الأدباء الحقيقيين الغيُورين على أدبهم ومجتمعهم ووطنهم، يسمع المرء، بين الحين والآخر، آهاتٍ خافتة عميقة من قلوب نقيّة إنسانيّة حقّاً، آهاتِ إشفاق يائسة على أولئك الأناسِيِّ، الذين لا يعرفون كيف يدافعون بقوّة وإقدام وصلابة عن كرامتهم، ونَبَالة نفوسهم..
ختاماً، للقارىء الحريص، ما قاله “الحسن البصري” يوماً:
“بَعْضُنُا يصطادُ بَعْضَاً والشِّباك تَخْتَلِف
ذا يَجِيءُ الأمْرَ رَأْساً ذا يَدُورُ أوْ يَلُفّ
والصَّغيرُ باتَ يَدرِي: كَيْفَ تُؤْكَلُ الكَتِف
لا تُخادِعْ يا صَديقِي بِالحَقيقةِ اعترِفْ”