الشهادة في التراث والموروث الشعبي
رفعت الديك
من أجمل الأغاني التراثية في محافظة السويداء تلك التي يردّد فيها أبناؤها “بالروح نفدي وطنا.. لو صاح صوت المنادي بالروح نفدي وطنا… يا مرحبا بالشهادي بشرعنا الموت سنة”، هي واحدة من الأغاني التي يتمّ ترديدها بالأعراس والمناسبات الاجتماعية، وتعبّر عن شجاعة أهل الجبل وحب الوطن وتقديس قيمة الشهادة، وهذه ليس مجرد كلمات تقال بل تعكس أفعالاً ومواقف عبر مرّ العصور.
وليس بعيداً عن الموروث الشعبي يمجد الباحث الأديب الدكتور فايز عز الدين الشهادة فيقول:
صلّوا على روح الشهيد تكرّما
طوبى لمن نالَ الشهادة أكرما
للّه ظلٌّ في الشهادة ِغامر ٌ
لولا الشهادة ُما تبسّمت ِالسّما
في المرجة الخضراء ضرج دمها
عشقا على حبل المشانق أقسما؛
الترك في الفيحاء أمطر مكرهم
ظلما وزهر الياسمين تظلما
فجر على الآفاق لون خيطه
والقيد آن القيد أن يتحطم
ما ارتاح من واري الزناد مقاتل
الا ونصل السيف منه تغرما
والحقبة السوداء خيم ليلها
ليل سحيم والوجود تسحما
وأفضل وصف لعرس الشهيد في المحافظة ذلك الذي قدمته الباحثة الفرنسية بريجيت عزام عندما قالت: “إن من أعظم المشاهد التي لفتت انتباهي تشييع الشهداء في السويداء، حيث شاركت في أكثر من موقف، ولاحظت كيف تحوّل يوم العزاء إلى يوم عرس، فالرجال يغنّون ويهتفون هتافات وطنية، والنساء تزغرد، وقالت: “إن أكثر صورة أثرت فيّ ولن أنساها أبداً دموع امرأة تزغرد فوق نعش ابنها”، ومن قصص البطولة والتضحية التي نسجها شباب الوطن التي يتناقلها أبناؤه نعلم أنه لا وجود لخوف في قلوب الأبطال لأنهم يؤمنون برسالتهم، وبشعبهم، وبحقهم بالعيش بكرامة، أو الموت دون ذلك، ولأنهم يعلمون أن طريق الخلاص والقضاء على المؤامرات التي تحاك للوطن لابد أن تعمّد بالدماء والبطولات، فعاهدوا الله والوطن أن يدافعوا عن وطنهم وكرامتهم وعزتهم وسيادتهم، وألا يبخلوا بدمائهم وأرواحهم حتى يتحقق النصر، فكانت الشهادة هدفهم الأسمى، لأنها الطريق الوحيد للوصول للنصر وقهر الأعداء، فكانوا أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر، ونسخوا أسماءهم في سجل الخالدين، وتتغنى ببطولاتهم الأجيال القادمة، فكان عرس الشهداء كأعراس التأبين أعياداً وطنية بامتياز وثقها الشعراء وتلاقوا معها، فها هي الشاعرة ربيعة غانم تجد أن الشهيد هو من بذل أغلى من يملك من أجل الوطن، روحه ودمه وهو الذي آثر الموت ليقدم لنا الحياة وفتح الطريق إلى الخلود بتضحياته وشهادته فهو أعظم من وهب الحياة بعد الله لمن ظل بعده وتجد أن الشهيد لا يكفن بالقماش بل بالآيات والسور كأنها كانت تلف تلك الروح.
هذا الحدث لم يكن عبارة عن جثة تحمل إلى القبر بل هناك وجه آخر رأته من هذه الصدمة التي عبرت عنها بهجمة الخبر ثم وصلت إلى رؤيتها التي كانت التناص بين قصيدة سليمان العيسى حول الشهيد تلاقى الله بالبشر، ففي قصيدتها “زغرودة الخلد” تقول:
بالغار كفّن بالآياتِ والسّور ِ
ولوّحَ الكفُ من علياءِ منتصر ِ
تحرّكَ اللحدُ من وجهٍ له خبر ٌ
حم ّ القضاءُ فوافتْ هجمةُ الخبر ِ
عرسٌ تنادى إليه النّاسُ في وقر ٍ
((حول َالشهيد تلاقى اللهُ بالبشر ِ ))
والثاكلات ملأن الجو زغردة
حزن تجلى على مقصورة النظر
تجمع الخلق والرايات خافقة
وطاف كبر وتكبير على كبر
ولطالما كان الأدب مرآة تعكس آلام وأمال الناس وهواجسهم شأنه في ذلك شأن الأجناس الإبداعية الأخرى، ولاسيما في تخليد المواقف الوطنية والبطولات التي يسطرها أبناء الوطن خاصة تلك التي تتعلق بمصيرهم وكرامتهم وانتمائهم حيث انبرى الكثير من الشعراء والأدباء للتعبير عن اعتزازهم بشهداء الوطن والبطولات التي سطروها وبذلهم الغالي والنفيس من أجل صون ترابها.
وها هو الشاعر عبدي الأطرش يخاطب الشهداء فيقول:
شهيدَ الخلدِ ! يا فخرَ الرِغابِ أراكَ اليومَ في فَلَكِ الشهابِ
بِكَ الإقدامُ في الجُلَّى تجَلَّى وردَّ الصاعَ بالسُمْرِ الغضابِ
فحدِّثْ عن “سويداءِ” التحدِّي وطعْنِ الرمحِ في نحْرِ الذئابِ
نبيعْ الروحَ في وطني المفدَّى ونعطي ” الشامَ” فاتحة الكتابِ