الشهيد في مراحل السرد المتتابعة
ملده شويكاني
لم يستطع الأدب النأي عن الواقع والانفصام عنه، فكان مرآة عنه تسرد حكاية التاريخ والصراع مع المستعمر، ومن ثم العدو الصهيوني، ليس في فلسطين فقط، وإنما في كل جزء محتل في أقطار الوطن العربي، فلم تقل الكلمة أهمية عن البندقية.
فمنذ الحكم العثماني على سورية اشتعل النضال، فجسدت الروايات والقصص نضال شعبنا العربي السوري ضد المستعمر العثماني، ووثق الأديب وهيب سراي الدين النضال من جبل العرب الذي امتد على مدى سورية كلها، كما دوّن ذلك عدد من الأدباء.
وتواصل النضال ضد المستعمر الفرنسي فكانت روايات الأديب إسكندر لوقا مثالاً على توثيق هذه المرحلة، ولاسيما حادثة قصف دمشق، من خلال مذكراته التي استمدها من أحداث ليلة قصف البرلمان، في روايته “من حكايات ليلة 29 أيار”- “ليلة ثلاثاء التاسع والعشرين من شهر أيار،1945 لم تمح الأيام والسنوات التي تلت معالمها من ذاكرتنا البصرية، نحن أبناء مدن سورية عموماً ومدن دمشق خصوصاً”.
وبمرحلة جديدة بدأت ملامح الشهيد ترتبط بالذاكرة الجمعية بشكل أكبر بعد أحداث النكبة، إذ توجه الأدباء الفلسطينيون والسوريون والعرب إلى الكتابة عن شهداء فلسطين، في مرحلة انطلاق العمل الفدائي وانطلاق أدب المقاومة، فكان نتاج غسان كنفاني الذي استشهد في الثامن من تموز عام 1972 الأكثر تأثيراً، ولاسيما أن أشهر رواياته تحوّلت إلى أفلام سينمائية أبرزت ارتباط الشهيد بالزمان والمكان، فقال: “دائماً يوجد في الأرض متسع لشهيد آخر”.
ومن ثم تتالت الأقلام وانبرت للكتابة عن نكسة حزيران وحرب تشرين التحريرية، التي أعادت إلى العرب الصورة المشرقة للنضال والصمود والتحرير، فانبثقت قصص كثيرة من القنيطرة التي رفع القائد الخالد حافظ الأسد في سمائها العلم العربي السوري بلحظة تاريخية.
ولابد من وجود تقاطعات وقواسم مشتركة بين الكتابة عن شهداء فلسطين ووصف المخيمات ومعاناة النزوح والتشتت والضياع، وبين الكتابة عن شهداء سورية في أراضيها المحتلة، إلى أن أخذت القصص الحديثة سمات أدبية مختلفة من حيث تقنية السرد التي اتجهت نحو البعد السينمائي وتصوير وقائع العمليات الفدائية القتالية بالكلمات، مثل قصة الدكتور عبد الفتاح إدريس بعنوان “الشهداء يحلمون أيضاً”، إذ وصف بسرد سينمائي شائق بلغة أدبية معالم الطريق: “بدأت السيارة تقطع مسافة الطريق الهابط من منحدر متعرج قاس قبل أن تنبسط وتتسلل مستقيمة بين صفين من الأشجار والبيوت المتناثرة بحذر كامل”، ومن ثم لمسير سيارة الفدائيين في غور الأردن وصولاً إلى المعسكر: “ولم تنقطع رؤية الفدائيين الذين ينبثقون من جوف الظلام بشكل مفاجئ، وهم يشهرون بنادقهم مستعدون مستنفرون لأي طارئ”، إلى أن يصل إلى تنفيذ العملية: “بعد وقت قصير حدث الاشتباك، وأتمت الدورية مهمتها القتالية خلف خطوط العدو”، لكن السؤال: أين الشاب الحالم بالعودة إلى فلسطين؟ إذ نجح إدريس بالإجابة عن هذا السؤال بالوصف المباشر لجثمان الشهيد، يقول: “فالشاب قد استشهد وما يزال جثمان الشهيد مستريحاً في أحضان التراب الفلسطيني خلف النهر.. تراب وطنه الذي طالما حلم بالعودة إلى ربوعه.. قيل بعد السؤال: إن مجموعة من رفاقه سوف تتسلل عبر النهر تحت جنح الظلام لإحضار جثمان الشهيد، فالإسرائيليون يجنحون إلى المغادرة والاختباء أثناء الظلام، وأمام المجموعة وقت كاف لإحضاره قبل شروق الشمس”.
وقد اتخذت الكتابة عن الشهيد منحى آخر مع اندلاع الحرب الإرهابية على أرض سورية، والصمود اليومي في وجه رصاص القناص وانفجارات القنابل وتدمير الصواريخ وتسلل العصابات الإرهابية وهجومها إلى الكثير من المدن والقرى، فكان السرد ملاصقاً للحقائق اليومية لسقوط الشهداء اليومي بشكل إفرادي وجماعي، فابتعدت لغة السرد عن الوصف بجمل أدبية إنشائية لتحل مكانها اللغة الإخبارية وأخذت مفردات جديدة طريقها إليها مثل الخندق والساتر والحاجز، لتكون عناصر أساسية بالقصة تساند الواقع، الذي يواجهه الجنود الأبطال والمدنيون.
كثيرون وثّقوا مجريات الحرب الإرهابية في رواياتهم وقصصهم، وبعضهم اتخذ أسلوب المباشرة مثل سوسن رجب في إحدى قصصها من مجموعة “عطر ملاك” ـ رسول غرام ـ، حينما وصفت الشهيدة البريئة الفتاة التي تحمل الزهور لتلتقي مع حبيبها بعد غياب على مقربة من الحاجز، فتسقط بأزيز رصاص الغدر: “القناص منع الحبيبة من تلمس يد فارس، وامتزج دم سوسن بأوراق الورد، وبكى فارس وتجمد الجنود من هول المشهد، فسوسن لم تكن إلا رسول غرام، وقصيدة تسير إلى حتفها تحت مقصلة قناص مهووس بالقتل”.
كذلك الأديب حسام الدين خضور في مجموعته القصصية “ليس في الجنة قبور”، كتب بلغة واقعية قصة الجندي “مروان” الذي أصيب ولم يستشهد فأصبح الشهيد الحيّ، واعتمد فيها على القول داخل متن السرد بصوت السارد: “وهذا ما قاله مروان لجاره، وهو يروي قصة المعركة التي حدثت في اشتباكات جوبر، وبُترت ساقه اليمنى إثر إصابته بقذيفة، قذفتها بقبر في زاوية بالحاكورة قرب المنزل، “ذلك قبري، دفنت فيه ساقي، وزرعت عند الشاهدة غرسة زيتون، ليتحول قبري مع الزمن إلى شجرة زيتون”.
وهناك آخرون التزموا بفنية غير مباشرة وبتورية حيناً، وبحوارية افتراضية كما كتب رسلان عودة في تداعيات الشهيد: “يقول صديقي الأديب وطوفان الدم يغرق كل ما كتبناه: أكتب وفاء للشهداء وشاهداً للتاريخ، ماذا أكتب والصفحات أضيق من الكلمات؟؟ حروفنا ساكنة وأقلامنا عمياء، لا فرق في رمل الكثبان بين قمة وقاع، أي لغة ستحيط بمشاعر طفل يحمل حقيبته المدرسية على ظهره، وهو يخبئ فيها أشلاء أخيه”.
وكانت حرب غزة وصمودها ورقة جديدة في ملف الشهيد والشهادة إذ كتب كثيرون عن ارتقاء الشهداء، وقصف المخيمات والمشافي والمخابز، وعن القتل المتعمد للأطفال الرضع والنساء، والعمل على محاولة إبادة الشعب الفلسطيني، لكن كما قال نزار قباني:
كل ليمونة ستنجب طفلاً
ومحال أن ينتهي الليمون