قدرة ومعرفة أمريكية مزيّفة
عناية ناصر
تعتقد بعض بلدان شرق آسيا أن الولايات المتحدة تتمتع بقدرة ومعرفة مطلقة. وحقيقة الأمر أن الولايات المتحدة ليست كذلك، أو على الأقل تتظاهر بذلك. وعلى الرغم من استمرار تحالفها مع دول أخرى للتعامل مع الصين، إلا أن “التزامات” الولايات المتحدة آخذة في التراجع. ورغم أن الولايات المتحدة أدركت أنها لم تعُد تتمتع بالقدر نفسه من المعرفة والقدرة في شرق آسيا، كما كانت ذات يوم بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لا تزال تتصرّف كما لو كانت كذلك، فاستراتيجيتها تتقلّص مع تحويل تركيزها الاستراتيجي من أوروبا والشرق الأوسط إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ للتعامل مع الصين على وجه التحديد.
بالنسبة لحلفاء الولايات المتحدة، تكمن جاذبية الولايات المتحدة إلى حدّ ما في إمكانية الوصول إلى السوق الأمريكية وجذب الاستثمارات منها، ومع ذلك، “دبلوماسية الطبقة الوسطى” التي ينتهجها جو بايدن تعني أن الولايات المتحدة لا تزال تركّز على القضايا الداخلية، ما يجعلها أقل احتمالاً لفتح سوقها أمام الحلفاء كما فعلت في الماضي. إن الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ لتحقيق الرخاء الذي اقترحه بايدن لا يدور حول فتح السوق الأمريكية، لذا لا يتمتع بجاذبية عملية في دول شرق آسيا. علاوة على ذلك، أعلن دونالد ترامب، الذي رشح نفسه لمنصب رئيس الولايات المتحدة مرة أخرى، أنه سوف يلغي الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ بمجرد توليه منصبه. ومن أجل التعامل مع مبادرة الحزام والطريق التي اقترحتها الصين، قدّمت الولايات المتحدة التزامات ضخمة في مجال الاستثمار في البنية التحتية لمختلف المناطق والبلدان في السنوات الأخيرة، ولكنها تفتقر في الواقع إلى القدرة على تحويل الوعود إلى واقع ملموس، وهذا هو الحال أيضاً فيما يتعلق بمسألة تايوان. ورغم أن العديد من القوى السياسية المؤيدة لتايوان في الولايات المتحدة ظلت تدعو بلادها إلى تبني سياسة الوضوح الاستراتيجي فيما يتصل بمسألة تايوان بدلاً من الغموض الاستراتيجي الحالي، إلا أن السلطات الأمريكية لا تستطيع أن تقوم بمثل هذا التحول الاستراتيجي. وسواء كان الأمر يتعلق بالدول المتورّطة في قضية بحر الصين الجنوبي، مثل الفلبين، أو منطقة تايوان، فلا يستطيع أي منها أن يجزم فيما إذا كانت الولايات المتحدة سوف توفر الدفاع في حالة نشوب صراع مع البر الرئيسي الصيني.
إن الغموض الاستراتيجي الذي يحيط بتعهّدات الولايات المتحدة يثبت أنها تعترف بأنها لم تعُد قادرة على كل شيء، وذلك لأن مصالح الولايات المتحدة متجذرة بعمق في مناطق مختلفة، ما يجعل من الصعب على الولايات المتحدة ترك مناطق أخرى وراءها والتركيز فقط على منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة الصين. وتشير هذه المصالح المتجذرة إلى أن الولايات المتحدة تفتقر إلى الموارد الكافية للتدخل في الصراعات المحتملة في المنطقة على نطاق أوسع. وعلى الرغم من أن الإنفاق الدفاعي والقوة البحرية للولايات المتحدة لا يزالان يحتلان المرتبة الأولى في العالم، إلا أن عدد السفن التي تمتلكها في غرب المحيط الهادئ أقل من الصين، وبمجرد أن تصبح البحرية الأمريكية في حالة حرب، من الصعب أن تنسحب دون أن تتكبّد تكلفة باهظة. وفي الواقع، يعتقد العديد من المحللين أنه إذا وقعت الولايات المتحدة والصين في صراع مباشر، فإن هذا من شأنه أن يؤدّي إلى تسريع انحدار القوة العالمية للولايات المتحدة، بغض النظر عن النتيجة.
إن الحرب الروسية الأوكرانية والصراع الإسرائيلي الفلسطيني مجرّد مثالين يظهران بوضوح أن الولايات المتحدة لا توفر الدفاع للدول التي تدّعي أنها تحميها بقوتها العسكرية، بل بالمساعدات العسكرية ونقل التكنولوجيا. وبعبارة أخرى، الولايات المتحدة تعمل في الواقع على تحويل هذه البلدان إلى وكلاء لها.
وفي واقع الأمر، سواء كان الأمر يتعلق باليابان، أم بكوريا الجنوبية، أم الفلبين، أم منطقة تايوان، فهناك أناس يدركون أن ما يسمّى الالتزام الدفاعي من الولايات المتحدة لا يشكّل سوى غموض استراتيجي، ويفتقر إلى أيّ قدر من اليقين.
تمثل منطقة شرق آسيا اليوم وضعاً مثيراً للاهتمام، ومن أجل الحفاظ على سمعتها ومصالحها، تستمرّ الولايات المتحدة في التظاهر بأنها تتمتع بقدرة ومعرفة مطلقة. ومع ذلك، تدرك أن الأمر ليس كذلك، وبالتالي تتجه إلى الحرب المعرفية لتصوير الصين على أنها “عدو” وتأكيد اعتماد حلفائها على الولايات المتحدة. ويتظاهر حلفاء الولايات المتحدة بالاعتقاد بأن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بالقدرة والمعرفة المطلقة بكل شيء، ويميلون بشدة نحو الولايات المتحدة ويعملون على تعميق علاقتهم، محاولين الحصول منها على أبسط المكاسب.
بالنسبة لأولئك الذين يستمتعون بأفلام هوليوود الرائجة، من الشائع جداً سماع سطور من الشخصيات الرئيسية تشتكي من أن “ربّهم” الأمريكي لم يعُد موجوداً، وأن عليهم الآن الاعتماد على أنفسهم. والواقع أن دولاً مثل اليابان والفلبين تواجه أيضاً وضعاً مماثلاً، فهم يتعاملون مع قوة الولايات المتحدة كعقيدة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه إلى أيّ مدى تستطيع الولايات المتحدة مساعدتهم فعلياً؟!.