كيْما نستمتع بقتل الوقت
وجيه حسن
هاتِهِ الكلمات بالعنوان، ليست من إبداعات عقلي، ولا من بنات أفكاري، ولا من إفرازات قلمي، إنما هي للأمانة العلميّة والخلقيّة، للفيلسوف والكاتب الفرنسي “جان بول سارتر”، الذي قال يوماً عبارته المُعمّقة: “إننا جميعاً نتواطأ معاً، أو كلّ بمفرده، كيما نستمتعَ بقتل الوقت، وإلقاء جثّته هناك، على قارِعَةِ المَلَل”.
لعمري، إنّه كلام كبير، صادر عن كاتبٍ عظيم، باسمه المدوّي، على امتداد جغرافيا هذا العالم المُتراحِب، والسؤال: هل ينسحب كلام “سارتر” على شريحة معيّنة، أو على شرائح اجتماعيّة شتّى؟ على بلدٍ بعينه، أو على دولةٍ بعينها؟ التّعميم بكلّ الأحوال والمقاييس خطأ، لأنه لا يؤدّي إلى نتيجةٍ دقيقة، أو إلى فضاءٍ رحيب، لكن السؤال الأقرب: هل كلام “سارتر” ينطبق علينا نحن العرب، دون سوانا من بقية خلْقه، جلَّ وعلا؟ أم أنه أراد شعوباً وأمماً أخرى، تعيش فوق هذا الكوكب الأرضي، الذي نعيش كَسِوانا فوقه؟ سؤال مُوَالٍ: هل منّا مَنْ سأل نفسه، بموضوعيّة وتجرّد: “كيف أقضي سحابة يومي، المُكوّن من أربعٍ وعشرين ساعة؟!”.
أسئلة مُعاضِدَة: هل نمضي شطراً ثميناً من أوقاتنا، بقراءة كتابٍ مفيدٍ؟ بإيجاد عملٍ إبداعيٍّ ما؟ ألم يعِ أحدنا فحوى قول الشاعر، منذ أكثر من ألف عام: “وخيرُ جليسٍ في الزّمانِ كتابُ؟”، أم أنّ مفرزات العولمة، وتبعاتها وإشكالاتها، أضحت سيّدة الموقف، المسيطرة على العقول والأبدان؟ وهي التي تستحوذ اليوم على أفئدة الشباب من الجنسين، وعلى فئة الأطفال أيضاً، وكبار السنّ، من ذكورٍ وإناث؟ ويفجؤنا سؤالٌ آخر: “هل حقاً، أنّ التلفاز، هذا الجهاز الخَطِر، هو الذي سلب – ويسلب – عقول الناس وأفئدتهم، كباراً وصغاراً؟ أم أنَّ “الشبكة العنكبوتيّة” العملاقة ـ الحاسوب ـ بشكل عام، و”الإنترنت”، بشكل خاص، هي التي غيّرت شكل الكون، ونظامه، بمدّة زمنية مُتناهية الصِّغر؟ نقول هنا بقوّة: “إنّ تمثالاً أسطورياً، قد بُعِثت فيه الرّوح، استطاعَ أنْ يحقق تواصلاً هائلاً غير مسبوق، بين أبناء البشرية، تنشأ من خلاله حوارات شتّى، بين أبناء الطبقات والدّيانات والآراء والفلسفات والثقافات المختلفة، كما استطاع، أنْ يقطفَ لنا أجمل “زهور المعرفة والعلم والتقدّم”! وعلينا ألّا ننسى، أنّه يحمل بيده سيفاً ماضياً، يستطيع بوساطته، أنْ يقدّم لنا “زهرة خَرابٍ معدنيّة”، تسلب من الإنسان روحَه، التي هي منبع تميُّزه، واختلافه، وقيمته الحقيقية بالحياة! ينبغي ألّا يغيب عنْ أذهاننا، أنّ قدوم الهواتف الذكيّة، ووسائل التواصل الاجتماعي، قد أشعَلَ فتيل وباءٍ مُتَخَفٍّ، من الابتزاز، والفضح على الإنترنت، وأنّ هذا الأخير، أكثر إغراءً بالنسبة إلى الأبناء والبنات المراهقين، من جهاز التلفاز الملوّن، وسريعاً ما تحوّلَ لأداةٍ لا مثيل لها، بلْ إلى صديق، وإلى مَضيَعَةٍ خَطِرةٍ للوقت!.
ويتفكّه أحدهم قائلاً: “الكتاب الورقيّ فقدَ تأثيره، خبَا وهجُه، بهذا الزّمن المُعَوْلَم!”.
السؤال: هل حقّاً، احتلّ الكتاب مكاناً ضئيلاً على هامش ثورة الاتصالات الحديثة، التي قبضت على خنّاق القول والكلمة والحدث والخبر والمعلومة، وراحت هاتِهِ الثورة بقوّة، تضخّ العالمَ بِمبيداتها القاتلة لحيوية الشعوب والأمم، وكان أكثرها هشاشة شعوبنا العربية، التي وقعت قسْراً عنها بين نِيْرِ العنف الثقافي، والعنف الغرائزي، هل منْ مهرب؟ منْ أسف، فإنّنا تركنا “ثورة المنهج، وطريق العقل”، إلى “ثورة الاستهلاك”، وأصبحنا أمّة تستهلكُ الحضارة الغربية، أمّة يلفّها ستارٌ كثيفٌ منْ نزوات استهلاكيّة جنونيّة مُفرطة، غابت معها التنمية الحقيقية، وضاعت بظلّها أوقاتنا وأعمارُنا سُدى، كما غابت عنْ شريحة من الشباب قِيَمُ التفكير، والقراءة، والإبداع.
ختاماً، يقول الروائي الكولومبي “غابرييل غارسيا ماركيز”: “سأنام قليلاً، وأحلم كثيراً، مُدرِكاً أنَّ كلّ لحظة نومٍ هي خسارة لِستّين ثانيةً من النّور، ولسوف أسيرُ فيما يتوقّف الآخرون، وسأصحو فيما النّاسُ نِيام”.