الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية والتغيير السياسي
ريا خوري
شهدت الولايات المتحدة الأمريكية وما زالت تشهد موجة احتجاجية طلابية عارمة طالت العديد من الجامعات في مختلف الولايات، فقد دعا الطلاب لوقف دائم لإطلاق النار في قطاع غزة، وإنهاء المساعدات العسكرية واللوجستية والمالية الأمريكية للكيان الصهيوني، وسحب استثمارات الجامعات من شركات توريد الأسلحة بمعظم أنواعها وغيرها من الشركات المستفيدة من الحرب الوحشية المدمّرة، والعفو عن الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الذين تعرَّضوا لإجراءات تأديبية من اعتقال أو طرد بسبب الاحتجاج.
الجدير بالذكر أن الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الذين اجتذبتهم هذه الاحتجاجات ينحدرون من خلفيات مختلفة تشمل الديانتين الإسلامية واليهودية. ومن المجموعات التي تنظّم الاحتجاجات المؤيّدة للشعب العربي الفلسطيني (الصوت اليهودي من أجل السلام) و(طلاب من أجل العدالة في فلسطين).
وفي محاولة من السلطات السياسية والأمنية ومن ورائها منظمات صهيونية اتهام المتظاهرين بالقيام بأحداث الشغب والعنف والتخريب ضد المتظاهرين المؤيّدين للكيان الصهيوني، أنكر المنظمون مسؤوليتهم عن الاتهامات أو تأييدهم له، غير أن بعض الطلاب اليهود قالوا إنهم يشعرون بعدم الأمان في الحرم الجامعي وبالقلق الشديد من الهتافات والشعارات المرفوعة التي يقولون: إنها معادية للسامية.
إن ازدياد حجم انتفاضات كبريات الجامعات الأمريكية جاء كضربة الصاعقة على الكيان الصهيوني، تلك الضربة غير المتوقعة بدأت بقلب الموازين السياسية الغربية، فقد امتدّت الاحتجاجات إلى معظم جامعات العالم، كما اتسعت رقعة الاحتجاجات فيها على استمرار المذبحة الوحشية في قطاع غزة، وتواصُل الدعم الأمريكي غير المحدود للكيان الصهيوني، عسكرياً وأمنياً ولوجستياً وسياسياً واقتصادياً، ما شكّل صفعة قوية للوبي الصهيوني الذي لم يتوانَ عن استخدام نفوذه وقواه الاقتصادية والسياسية والإعلامية لتغيير الرأي العام لمصلحته الخاصة، وضخّ مليارات الدولارات في سبيل قلب الحقائق واللعب على العقول وتشويه كل حالات الهبة الإنسانية في العالم، وخاصة أن طلاب تلك الجامعات يُعدّون من النخب المهمة التي تساهم في صناعة مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية سياسياً، وقد يخرج منهم من يتولّى مواقع قيادية مهمة وحسّاسة.
من جهته أظهر الكيان الصهيوني حنقه وجنونه وغضبه من تلك التحركات، لأنها تعني بشكل جوهري أن تلك التحرّكات قد أصابت الرواية الصهيونية بمقتل، وأنَّ الادّعاءات والسرديّات (اليهودية) و(الإسرائيلية) التي حاول ترويجها على مدى عشرات السنين الماضية، قد نُسفت، وثبت كذبها وزيفها، وعدم واقعيتها، من عمليات القتل والتدمير الوحشي وعمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي المنظم المترافقة مع شلال الدماء النازف في قطاع غزة، والقتل لأجل الانتقام فقط، بينما الضحايا هم أطفال ونساء، يُقتلون بأبشع صورة، بالسلاح الفتّاك الذي تنتجه الولايات المتحدة الأمريكية، لذا فإن التظاهرات في أكثر من ست وسبعين جامعة عريقة على امتداد الولايات المتحدة، تشكّل صدمة للإدارة الأمريكية الداعمة بلا حدود للكيان الصهيوني التوسعي، واللوبي المسيطر، وخاصة مع هذا الجيل الشاب الذي خرج من قمقم الإعلام التقليدي المزيَّف الذي يقلب الحقائق ويغيّر الصورة النمطية المظلمة، وأصبح يرى الحقيقة كما هي من دون رتوش أو تزيين، ما يؤكد أن حظوظ الكيان الصهيوني مع الشباب الأمريكي الناشئ الذي هو جيل بناء الولايات المتحدة المستقبلي في تراجع ملموس، وهذا ستنعكس نتائجه على المديين، المتوسط والبعيد، على المستويات السياسي والعسكري والاقتصادي، بظهور انقلاب في السياسات قد يكون لمصلحة القضية الفلسطينية والشعب العربي الفلسطيني عندما يتسيَّد جزء منهم صناعة القرار في كل المجالات في بلادهم.
الكيان الصهيوني بكل مكوّناته السياسية والاجتماعية والعسكرية لم يرضَ بهذه الاحتجاجات العارمة، بل دعا مجرم الحرب بنيامين نتنياهو صراحة، إلى التصدي للمتظاهرين ومجابهتهم بالقوة الأمنية، متهماً إدارات الجامعات بالفشل في إخماد الظواهر التي أطلق عليها صفة (معاداة السامية)، حيث إن ذلك التصريح الخطير يُظهر عمق الأزمة التي يعانيها الكيان الصهيوني، على صعيد القبول العالمي، وأيضاً يُظهر الولايات المتحدة الأمريكية على أنها تابعة له، حتى في شؤونه الداخلية، وما خروج أصوات في الولايات المتحدة الأمريكية للعلن إلا خير دليل على ذلك، فالداخل الأمريكي بات رافضاً ومنزعجاً من هذا التدخل السافر، وما زاد الطين بلّة، لجوء العديد من الإدارات الجامعية، وبقبول من المستوى الرسمي إلى رفض وقمع الحراكات الطلابية التي عمّت معظم الولايات الأمريكية، والتي شهدت حالات السحل والاعتقال لطلبة وأساتذة الجامعات، لتُسحق كل المُثل والقواعد الأمريكية التي تُسمّى (ديمقراطية وحرية تعبير)، كما سُحقت سابقاً روايتها القائمة على نصرة الشعوب المُكبّلة بـ(الطغاة) و(الديكتاتوريات)، عندما مدّت الكيان الصهيوني بالسلاح الفتّاك دون تردّد أو دون محاسبة من الجهات المختصة، وهي أموال دافعي الضرائب الأمريكان، لتمزّق به أجساد الأطفال والنساء والشيوخ وتهدم البيوت والممتلكات والبنى التحتية.
الحرب الوحشية المدمّرة على قطاع غزة غيّرت الكثير من المفاهيم والرؤى لدى شعوب العالم، إذ أكَّدت أنَّ الكيان الصهيوني قائم على التوحش والعدوان، وأن العالم الداعم له الذي يسمّي نفسه (العالم الحر) أسير لمصالحه، ويجد كل المبررات في تمويل ودعم القتل والتدمير الممنهج في سبيل المحافظة عليه، وأن الديمقراطية التي يتغنون بها تبيّنت أنها كذبة كبيرة، وفي المقابل، فإن الشعوب الحرَّة مهما تم إخفاء الحقيقة عنها وتم تغييبها فإنها لا بدَّ أن تكون في صف المضطهدين والمظلومين في العالم، وهذا ما حصل في الولايات المتحدة الأمريكية، والعديد من الدول الأوروبية وتحديداً دول الاتحاد الأوروبي.