نواعير الوقت الكونية
غالية خوجة
ترتجف ذاكرتي حنيناً وهي تعبر بين المطارات باحثة عن ظلال لا تذوب مع الأيام، ربما لأنها تنمو مثل عرائش الوفاء في المسافات، فلا تخذلنا كأغلبية البشر، بل تتشبّث بأطيافنا الحاضرة، وتزهر مع أطيافنا القادمة من المستقبل، وتتركنا طيوراً محلقة تحاول الإفلات من شِباك الوقت وأقفاص الفناء.
وكان أن مرّت علينا حروب وانكسارات وزلازل وشَتاتات، وتأرجحنا بين عودة إلى هنا، وإقامة هناك، واسترسلنا حضوراً بين غياب وغياب، وفقدنا الوالدِين رحمهما الله، وتشابكت حياتنا مع الصداقات القديمة والجديدة، وانكشفت البواطن، وتصارحت أعماق المحيطين بنا من أقارب ومعارف وأصدقاء، بعضها كان مظلماً ظالماً، وأغلبها اتسع بالنصاعة، ولم تؤثّر فيه المسافات المكانية والزمانية، بل ازداد إشراقاً.
لتلك القلوب المشعّة بالطيبة والعطاء والوفاء منابع إلهية تصون ملح المعاني وخبز الكلمات وتراب الأوطان، وأرواحها تظل ترافقنا كما ترافقها روحنا، فتخجلك بتعاملها الشفيف، وإحساسها الإنساني الجوهري، وتشعرك بأنك أنت الذي بدأتَ بتلك البوصلة الجمالية، وما هي إلاّ انعكاساتك على المرايا.
النسيان يرتجف، والزمن يخلع أمواجه على الشواطئ، وتكتسي الرمال بأحلام الذين عبروا في حياة عابرة، وتنبض الكتب بأفكار أولئك الذين كانوا وسيكونون، ووحدها شبكة الضوء تغربل المعتم، وتنفض أجنحتنا من غبار الآلام، لنجرّب التحليق من البداية، دائماً، من جديد.
إلى متى نبدأ من جديد؟
بين الذاكرة والنسيان أطياف وأرواح وشخوص وآمال ودموع ترتدّ إلى القلب لتتحوّل كتابات وعوالم وفضاءات وألحاناً تكتمها النايات وتبوح بها البراري، فتزقزق اللحظات، وتنبت الكلمات سنابلَ وغيمات وأنهاراً وجبالاً تلوّح بالمناديل، لعلّ الخلود يصادفها، أو لعلها تلده، أو لعل اللاشيء يسترجع ما فُقد منه بين المسافات، أو يذهب معها في التلاشي، فلا ينجو إلاّ المعتاد على مضادات روحية تقاوم جحيم الآخرين، وتطفئ نيران الفتنة، وتزرع الغيم مثل القمح في تربة المحبة والسلام.
ترتجف القلوب المبصرة قلقاً مما يحدث، فلا الأرحام موصولة، ولا الديار مأهولة، ووحده الهجران يعشّش بين رجفة الذاكرة ورجفان النسيان، وما بين القُرب والقرب بُعدٌ، وما بين البُعد والبعد قُربٌ، والجدران تسأل عن السكان؟
الحجر يحتفظ بأنفاسنا حتى وإن غبنا، والبشر ينسون وجودنا حتى وإن حضرنا، وناعورة الوقت تدور بأطيافنا، فترتفع اللحظة مع الشروق، وتتلاشى اللحظة مع الغروب، ومع الأيام وجودنا يذوب إلاّ ذاك الأثر المعرّش بين القلوب.
يا أيتها المناديل المضمّخة بأنين الذكريات، اصهري أحزانك، واجعلي منها طيوراً تمنح السعادة للمتعبين، ويا أيتها الموسيقا الملفوفة بالجراح، التائهة في الحقول والبراري والقفار، افتحي أشرعتك على الموج، وخذي انكسارات قلبي مرساة لنغماتك، ونسياني بحراً لأبجديتك، وذاكرتي ناراً لشعلتك، ولا تتركيني أرتجف فراشاتٍ يلسعها الضوء.
ومضيت متجهة إلى نفسي، والصمت طبولٌ في أدغال رأسي، ووجهها، وحدها، يضيء ظلمات العالم، وصوتها الحنون وحده يدعو الله، وروحها تصلّي مع الأرواح في البرزخ.
لم تغادرني ولا لنبضة، وكلما مضيتُ متجهة إلى نفسي وجدتها ولم أجد نفسي، فأطمئن، وتذهب انكساراتي زبداً، وترتفع دعواتها إلى السماء.
روحي ترتجف، أنا التي أكتب بالمحو حياتي، وأحفر في مناجم الكون، لعلني أترك أثراً لامعاً في القلوب المرتجفة بين الذاكرة والنسيان!