زيناتي قدسية: المسرح خياري والمونودراما لم تكن ترفاً فنّياً
أمينة عباس
بدا لقاء الفنان زيناتي قدسية مع طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية ضمن “ملتقى الإبداع” الذي يستضيف عادةً شخصيات مسرحية مهمّة من بلدنا، مغرّداً خارج سرب اللقاءات السابقة بآراء وأفكار وقناعات قدسية حول فن المسرح والتمثيل، وهذا ليس بغريب عن ممثل راهنَ على تحقيق نجوميته من خلال أبي الفنون، فكسب الرهان في الوقت الذي كان يؤمن بعضهم أن النجومية لا تتحقق إلا عبر التلفزيون.
وعلى عكس معظم الفنانين الذين تمت استضافتهم في الملتقى والذين كانت أعمالهم التلفزيونية تغلب على الفيلم التوثيقي، خيّمت الأعمال المسرحية على فيلم التعريف به، لأنه مازال مخلصاً للفن الذي حلَّق فيه عالياً، على الرغم من وقوفه على خشبة المسرح بالمصادفة: “لم يكن لديّ أي تفكير بالعمل في المسرح، وأنا الذي كنتُ منشغلاً بالنّحت والتشكيل”، لكن ما حدث أن أحد المخرجين في إربد بالأردن دعاه 1967 إلى العمل بالمسرح، وعندها استغرب من طلبه وأكد له أنْ لا علاقة له بالتمثيل، وقد يساعده بالديكور إن أراد: “أجبرني على المشاركة في أحد العروض المسرحيّة، وأستطيع القول إن حرب عام 1967 دفعتني إلى المسرح وليس حبّي له”، ولأن لذة الوقوف على خشبة المسرح لا تجاريها أي لذة وعلى الرغم من أنه بعد انتهاء العرض المسرحي أقسم ألّا يخوض التجربة مرّة ثانية، لكنه بعد عدّة أيّام وجد نفسه يقرع باب بيت المخرج يسأله عن العرض القادم.
وقال قدسية للطلاب: “ولدتُ من أبوين فلسطينيّين وتعلّمتُ من الأديب غسان كنفاني وفهمتُ ما كان يحدث في بلادنا، فهو الذي أجابني على العديد من الأسئلة، وكان مفتاح وعيي للدنيا والقضيّة والوطن: “كان لحرب عام 1967 تأثير كبير على نفوسنا، وهي الحرب التي ما زلنا نعيش آثارها حتّى اليوم على صعيد الهزائم وعلى صعيد الانتصارات، وكانت حرباً مفصليّة”، مضيفاً أنه لم يدرس المسرح أكاديمياً واتجه إلى برلين لدراسة الفنون الجميلة، لكنه فُصِل من الأكاديمية عام 1970 بعد أن عدّوه إرهابيّاً، وسرعان ما عاد إلى سورية التي كان يأتي إليها من الأردن لمتابعة عروض المسرح القومي عام 1968، وهي الفترة التي كان يثقف نفسه بنفسه مسرحياً: “قرأتُ المنهاج المصري والمنهاج المسرحي الموجود في موسكو وشاهدتُ العديد من العروض التي كانت تقدّم في لندن، وتأثّرتُ بالمدرسة الإنكليزيّة في الأداء ولا أزال لا أؤمن بقضيّة الإلقاء.. ستون عاماً عمر تجربتي في المسرح، ولي وجهة نظر وآراء ومواقف”.
في عام 1970 استقر زيناتي قدسية في دمشق وبدأ العمل مع المسرح الجامعي كما نصحه ممدوح عدوان الذي كان أوّل من تعرف عليه في دمشق التي عرّفته على أهم الكتّاب حنا مينة وعبد الرحمن منيف وآخرين، ومن ثم سنحت له الفرصة للعمل مع كل المؤسسات التي كانت تنتج مسرحاً، ومنها المسرح الوطني الفلسطيني: “عاصرتُ أسماءً مهمّة وكنتُ محظوظاً جدّاً بهم، وهناك مجموعة ما زالت ترافقني حتّى الآن مثل يوسف المقبل، وعبد الباري أبو الخير، ومحمود خليلي”، وحين كتب سعد الله ونوس مسرحية “الاغتصاب” دعاه للمشاركة فيها: “حين قرأتُ النص تناقشنا وتحاورنا، لكن اختلفنا ولم نتّفق على المسار الفكري للنص، ومع هذا ظل سعد الله ونوس صديقاً عرّفني على معنى الحرية كما عرّفني فواز الساجر على معنى الحب”.
وعن رحلته مع فن المونودراما التي انحاز لها بشدة وما يزال قال: “كنتُ مرشحاً في أحد المهرجانات العربية لجائزة أفضل ممثل دور أول، وكان ممدوح عدوان أحد أعضاء لجنة التحكيم، ولأسباب واعتبارات معينة حُجِبَت الجائزة عنّي، ونتيجة لذلك أهداني ممدوح عدوان عام 1984 نص مونودراما “حال الدنيا” وفيها بدأنا من الصفر في التحضير لهذه المونودراما في ظل غياب أي مرجعيّة نظريّة لها: “عندما قدّمتُ أول مونودراما عام 1985 كنتُ قد تجاوزتُ مرحلة كبيرة من العمل في المسرح وبأدوار أساسيّة، لذلك عندما اتّجهتُ إليها لم يكن بهدف الاستعراض وتحقيق الشهرة، فالمونودراما لم تأتِ من باب الترف الفنّي، إنّما كانت بحكم الضرورة والظروف السياسيّة والاقتصاديّة التي كنّا نعيشها في فترة الثمانينات: “لم تكن المونودراما نزوة عابرة، وأعترف بأنّنا نستطيع أن نقول في المونودراما ما لا نستطيع أن نقوله ضمن عروض فيها أعداد كبيرة، فقدمت أربع مسرحيات مونودرامية مع ممدوح عدوان، وكان قبل رحيله يكتب لي مونودراما “الشيطان” وقد رحل قبل إكمالها، وقد التقطنا من خلال المونودراما حرارة اللحظة، وأخذت التجربة أهميّتها وقيمتها من استمرارها، أتابع بعض المهرجانات التي لها علاقة بالمونودراما، ومن المؤسف أن الكثير منها لا ينتمي إلى هذا الفن”، مؤكداً أنه مؤمن بأن للمونودراما جمهوراً كبيراً عكس ما يردده بعضهم في حال ما كان يتم تقديمه ينتمي إلى فن المونودراما الحقيقي.
ورداً على بعض أسئلة الطلاب حول واقع المسرح في سورية وهجرة الفنانين له، بيّن قدسية أن مديريّة المسارح والموسيقا تنتج عروضاً مسرحيّة والدعم الحكومي موجود له، وأن هجرة الكثير من الفنّانين من المسرح إلى التلفزيون واختيار الخريجين عدم التوجه إليه موضوع له علاقة بالخيارات الشخصية: “المسرح كان خياري، وهناك اليوم من يتّجه إلى التلفزيون بحثاً عن الشهرة والأجر، وهذا أمر مشروع، وفي بداياتي اتجه كثير ممّن رافقني إلى السينما والتلفزيون من أجل ذلك وأصبحوا نجوماً بالفعل، حينها كنتُ أقول لهم سأثبت لكم أنّ المسرح سيخلق منّي نجماً”.
وباعتباره مواكباً لمهرجان دمشق المسرحي، أكد للطلاب أن غيابه أثّر كثيراً على المسرح لأنه كان مدرسة حقيقيّة لكل من كان يعمل في المسرح في العالم العربي: “كان حلم أي مسرحي المشاركة فيه، مع أنّه كان خالياً من التقييم والجوائز، لكن كان هناك نقاد مهمون، لذلك كان له حضور كبير، وحين غاب غابت الكثير من التجارب المسرحيّة، وهناك مهرجانات كثيرة تقام اليوم نحن بحاجة إليها، ويجب إيجاد بيوت ثقافيّة تُبنى من خلال المهرجانات المتتالية”.
وفيما يتعلّق بالنّصوص المسرحية وندرتها، أشار إلى تجربته كمحكّم في الهيئة العربيّة للمسرح: “بعد قراءتي لـ 270 نصاً وجدتُ أن 250 نصاً لا علاقة لها بالمسرح، وقد غلّب عليها لغة السينما والتلفزيون، فغابت ملامح المسرح فيها، وإذا استمرّ الكتّاب في هذا المسار سيكون هناك خلل كبير”.
أما عن نصائحه للطلّاب بعد التخرّج فقال: “ليس لدي أي نصيحة سوى مواصلة الدراسة، وأنا لا أجد فرقاً بين خريج المعهد ومن لم يدرس المسرح بشكل أكاديمي، فهناك ممثلون كبار في العالم العربي وفي العالم الغربي وفي هوليود لم يدرسوا بشكلٍ أكاديمي وأصبحوا نجوماً، وفي سورية وقبل افتتاح المعهد عام 1977 كان هناك ممثلون وقفوا على خشبة المسرح في الثلاثينيّات وكانوا ممثلين مبدعين وعمالقة” مع اعترافه أن المعهد ضروري لتلقّي العلم وصقل الموهبة: “أنا لم أدرس المسرح، لهذا أعترف أنّ التعب يصيبني في بعض الأحيان لأنّني لم أدرس علم التشريح”.
الناقد والإعلامي سعد القاسم الذي أدار اللقاء، بدأ كلامه بتأكيد أنه وأبناء جيله من المحظوظين لأنهم عايشوا فترة نهضة المسرح وعصره الذهبي والتي كان ولا يزال زيناتي قدسية من أبرز روادها وألمع من حمل رسالتها.
وتخلل اللقاء تقديم شهادات مصورة حول تجربة قدسية الفنية، قدمها المخرج نجدت أنزور الذي قال: “قامة فنية عالية، هو الفلسطيني- السوري، أو كلاهما معاً، وهما واحد في المصير، من المسرح الجامعي إلى مسرح الشباب إلى المسرح القومي ممثلاً وكاتباً ومخرجاً، شكّل ثنائيّة مسرحيّة فذّة مع الكاتب ممدوح عدوان، حقّق بصمة فنيّة في أي عمل وُجد فيه، لكن المسرح بقي بيته الأثير، زيناتي قدسية تجربة متفردة وهو فنّان شامل من الجيل الذهبي الذي يستحق التكريم كل يوم”.
بدوره، المخرج العراقي الدكتور جواد الأسدي أشار في شهادته إلى تعاونهما كمخرج وممثل في مسرحية “العائلة توت” وقال: “لا يمكن أن أنسى حضوره فيها حيث رسّخ بصمة كبيرة لا يستطيع أحد تخطيها من خلال شخصيّة الجنرال الذي كان مثالاً جماليّاً ومعرفيّاً في فن التمثيل، وعملنا ضمن شراكة فنيّة جماليّة، وهو فنان مثقف مطواع، يأتي إلى البروفة كعاشق، ورسّخ اسمه في المونودراما والحياة المسرحيّة ممثّلاً ومخرجاً، وقدّم جهداً إبداعيّاً كبيراً وكان استثناءً يحتذى به في المسرح العربي والسوري”.
وعدّه الدكتور عبد الرحمن بن زيدان -المغرب- أيقونة من أيقونات المسرح العربي لتميّزه في الكتابة والإخراج والتمثيل المسرحي، وجعلته جرأته يؤسس للكتابة المونودراميّة التي لا يبتعد فيها عن أحلام المواطن والإنسان، وجرّب كثيراً ووصل إلى ما وصل إليه اليوم، وهو من المسرحيّين العرب الّذين حفروا في الذاكرة المسرحيّة أجمل المسرحيّات، وعلم من أعلام الثقافة المسرحيّة”.
كما أكدت الفنانة فيلدا سمور أن الحديث عن قدسية يستحق كل التقدير والاحترام: “منح عمرَه وبذل جهده في المسرح، شغفه وحبه، وعلاقته مع المسرح لا تشبه أي علاقة أخرى، فهو على الخشبة جزء منها، لذلك حقّق نجاحات كثيرة وكبيرة”. ورأى المخرج والممثل الفلسطيني- الأردني غنام غنام أن قدسية أنموذج حقيقي للفنان المسرحي: “فنان قابض على جمر الإبداع والموقف والفكر، ولي تجارب عديدة معه، حيث كان نصه “الجاروشة” الذي يتناول فيها الانتفاضة الفلسطينيّة انطلاقة حقيقيّة لنا”.
يُذكر أن اللقاء بدأ بكلمة لعميد المعهد الدكتور تامر العربيد الذي بيّن أن الفنان زيناتي قدسية عاصر قامات مسرحية كبيرة مثل سعد الله ونوس، وفواز الساجر، وأسعد فضة، ومانويل جيجي، ونبيل الحفار، وعادل قرجولي، وغيرهم، وكان شاهداً على فعاليات مهرجان دمشق المسرحي التي تألق فيها: “القابض على الجمر، المسرحي الحقيقي، صاحب الوفاء لخشبته”.