المحبة إبداع..
وجيه حسن
يقول أحدهم: “الناس في التّجارة خُصومٌ بالضّرورة؛ فلماذا يكونون كذلك في حرفة الأدب؟”.. هذا الكلام تجسّد واقعاً؛ حين اجتمعنا للحوار، نحن ثلة من الكتّاب الأدباء.
بتلك الجلسة، التي توقّعتُها حميميّة، أرسل عدد من الحاضرين ألسنتهم وشطحاتهم، كيفما اتفق، قدْحَاً وذمّاً وتبْقيعاً بزملاء لهم بالهمّ الكتابي، وبساتين الإبداع!.
وفي كلّ لقاء، كان الكلام عينُه، يكرّ كالنّهر انهماراً، من دون أيّ وازع منْ ضمير، أو أيّ رادع منْ خجل؛ بل كان ينْداحُ من غير تَحوُّط أو خشية! كان بعضهم يبالغ بالانتقاد، فلم يترك لزميلٍ له سِتراً مُغطّى! بل وصل الأمر بأحدهم، إلى ِحدّ أنّه تناولَ زميله الغائب، بالقدْح والذمّ، والغِيْبة المُسْترِيبة، ثم غالى وتحدّث عن جانب “الرّجولة” لدى هذا الزميل، بحيث حطّ منْ معنى “عَدوّه”ككائنٍ بشريٍّ أصلاً.. كأنّه ما كفانا -نحن أرْباب الكتابة والتّحبِير، والرّسم والتّسطير- تعباً، بلْ قهراً وهَرْساً ومعاناةً يوميّةً على الصّعد الحياتيّة كلّها، حتى ينزل بعضنا ببعضنا تشويهاً وقدْحاً، على هذه الصورة المُدانة، أو تلك! السّؤال: لماذا تنداحُ هذه المُهاترات البائخة، بألسنة وأقلام وتبْقيعات هؤلاء القيّمين على أمانة الكلمة، واحترام شرف المهنة، مهنة الكتابة;؟! سؤالٌ آخر: هل من رحابة النفس، وسلامة الخُلق، أنْ نتناول غيرَنا; من الكتّاب والأدباء، أو سواهم من العامّة; بألفاظ مُبتذلة، وكلام صقيع، على حين أنّنا نرسل أقلامنا، لتكتب زاوية، أو لتنسج قصة، أو عموداً مهمّاً، أو كلاماً شاعرياً، أو ما شابه، فدَوْرُ الكتّاب الأدباء: بثّ الوعي والضّوء، وزيادة منسوبيهما بعقل المتلقّي- القارئ! أما ما يُقال ذمّاً وغِيبةً، أو ما يُكتَب من كلام بارد مُبتَذل، فإنّ صاحبه يكون كَمَنْ يكذب على نفسه أمام عين الشّمس، ونحن نتحدث بكتاباتنا عن الأخلاق الحميدة، والمناقب السّامية، وعن حبّ الوطن، وضرورة تأييده ومناصرته بمحنته القاسية، التي تناولت كلّ أُناسِيِّه وقيمه وتراثه، ومخزونه الثقافي والتربوي، وكل ذرّة ترابٍ عزيزةٍ فيه! الأسئلة الأشدّ: لماذا كلّ هذا الهذر واللّغو والثرثرة الفارغة، وهذه الغَرْغَرَة الكلاميّة; الجوفاء، قلنا له؟! وقلنا: ما الغِنى الذي فيها؟ ما الفائدة؟! ثمّ: أيكفي أنّ الأشياء التي نلوذ بها -نحن أصحاب “رُخَص الأقلام”- تتشظّى، هكذا جُزَافاً أمام أعيننا، على سواحلِ أسماعنا، ونقف عاجزين عن الردّ عليها، وعلى أصحابها; أدْعِياء الثقافة، أصحاب الأخلاق الرّماديّة! حتماً إنه غياب الوعي في الوعي، وانبعاث دخان أسود منْ خلايا الرّوح، والنفسُ دائماً أمّارَة، كيف نهذّبها، كيف نشذّبها؟ كيف نقلّم أظفارَها، إنْ حادَتْ يوماً عنْ جادّة الصواب، ومنارة الوعي، وسُبّورة اليقظة؟
بهذا السّياق يقول شاعر:
عليكَ نفسَكَ هَذّبْهَا فَمَنْ مَلكَتْ قيادَهُ النّفسُ عاشَ الدَّهرَ مَذمُوما
إنّ هذا الذي يمارسه البعض منّا، لهو مُخْجِلٌ حقاً، يسيء لِحرفة التعب والأمل والنّور، حرفة الكتابة، عالية المقام، فَمِن مِداد هذا القلم المُعافَى، يخرج الضّياء، تتفتّح أكمام الزّهر، كيف نغمطه حقه علينا؟! كيف نسمح لأنفسنا، ولألسنتنا، ولأقلامنا، أنْ تصبّ جامَ غضبها على زملاء لنا بالرّوح الإبداعيّة المعطاء؟ من غير أنْ يدري المُستغِيبُ زميلاً له، أنّ النّيْلَ من الآخر، إنّما هو بالحقيقة نيلٌ من الذّات! والكاتب المبدع، حين يجحد حقوق الآخرين، ويستهزئ بكتاباتهم وإبداعاتهم، إنّما يتدهورُ هو نفسه، بتفكيره وشخصيّته وخُلقه أيضاً! عليه، ينبغي أنْ يعلم كتّابُنا وأدباؤنا الميامين، أنه لا وقت لدينا لإضاعته في ترّهات وخزَعبلات وتبقيعات ومناكفات، لا تُغني ولا تُسمن، تلك التي تعمد لتمزيق الصفّ، وتشويه معالم الطريق، وتجريح الوجه الحضاري لثقافتنا الأمّ، ولأدبنا العالي، ولتربيتنا بالمقام الأوّل! نعم، بكلّ صدق، ليس لدينا الوقت الكافي، لتبْديدهِ بأضاليل باردة، وألفاظ سخيفة؛ بدلاً منْ استثمار أوقاتنا وكتاباتنا وأحْبَارِنا وحواراتنا، فيما هو مفيد مثمر، لنا ولمجتمعنا ولوطننا المكلوم بآن!.
وعلينا -انطلاقاً من مبدأ الإخصاب الفكري المُتبادَل- أنْ نتعلّم كيف نواجه الآخرين بأشجار المحبّة، المحبّة بوجهيها: الخفي والمعلن، المحبّة المؤسَّسة على سماحة الخلق، ونسغ التجدّد، وسعة الصدر، ورجاحة العقل، في شَيْئِه الغَفير!.
المحبّة ببساطة، هي الإبداع الذي لا ينقضي، ولا تجفّ له عروق، لأنّ النّسغَ فيه دائمُ الماء والاخضرار والإيناع! وأكثر من ذلك، فالمسألة بِأُسّها، تتطلّب عَقْلَ ذواتنا وتعقِيلها، بآنٍ!.
والأديب أو المثقف، الذي لا يمزج الأخلاق بالعمل، بالكتابة، بالحوار البنّاء، بنقاء الدّاخل، على أساس ارتباط المُنجَز الإبداعي بهذه الأقانيم، لا قيمة له، ولا لإبداعاته وكتاباته البتّة!!.