في المضامين الاجتماعية والفكرية لهوية وطنية سورية جامعة
الدكتور مازن جبور
إشكالية الهوية، من أكثر الإشكاليات التي تبرز في الأزمات، إذ يعدّ شعور الانتماء إلى الوطن، مع وعي الهوية الوطنية وإدراك خصائصها الجوهرية المميزة، من العوامل الأساسية في توحيد أبناء الوطن، وهنا تصبح عملية بناء هوية وطنية جامعة ذات مضامين فكرية واجتماعية متسقة مع تاريخ الشعب وخصائصه المميزة، حاجة ملحّة.
وانطلاقاً من أهمية الهوية الوطنية السورية الجامعة في المرحلة الراهنة، قدّم الرفيق الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، الرئيس بشار الأسد، في كلمته أمام الاجتماع الموسّع للجنة المركزية للحزب، تصوّراً حول فكر “البعث”، شدّد فيه على الهوية القومية العربية للحزب، لافتاً إلى ضرورة إعادة صياغة فكر الحزب بـ”الشكل الذي يتماشى مع عصرنا، شرط ألا يخالف انتماءنا، ولا يسلخنا عن جذورنا”، نظراً لأن هوية “البعث” العربية، تنطلق من “انتماء اجتماعي حقيقي واقعي”.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الجغرافيا في شقها المتعلق بالحدود، تعدّ أحد العوامل الرئيسة المؤثرة في بناء الهوية الجامعة، من منطلق أن التغيّر في الحدود قاد إلى تغيير ديموغرافي، نجم عنه تشاطر الهوية القومية العروبية التي نادى بها البعث بين البلدان العربية المختلفة، وهذا الحال بالنسبة لسورية، فالتبدّل في حدودها بفعل الاستعمار، أدّى إلى تعدّد هويات السوريين في مرحلة تاريخية معينة، بحيث كل هوية منها اتخذت منحىً يناسب تصوّرات تيار معين ويلبّي طموحاته، وسعت كل هوية منها لتثبيت حواملها الاجتماعية والسياسية والفكرية، إلا أن الهوية العربية التي تبناها “البعث” كان لها جذورها المتينة في المجتمع السوري، بصفته جزءاً من مجتمع عربي أوسع.
ويورد الباحثون مجموعة مؤشرات على وجود أزمة في الهوية الوطنية لدولة ما، ومنها ضعف الانتماء والولاء السياسي الموحّد للدولة، وتعدّد الولاءات في داخل المجتمع الواحد والدولة الواحدة، وغياب مفهوم المواطنة في الواقع المعيش، وبروز ولاءات لانتماءات ما دون أو ما فوق الوطنية على حساب الولاء للدولة وغيرها، وهي مؤشرات يمكن تلمسها في الحالة السورية، إذ إن الأزمة أدّت إلى ظهور قوى ذات ولاءات سياسية وأيديولوجية مختلفة، تبنّت أجنداتٍ غير وطنية، وسعت لاقتسام الجغرافيا السورية بتحريض ودعم خارجي.
يقول الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، في كتابه “الفكر والمستقبل”: “لا يوجد أي منهج قادر على رؤية التعقيد الشديد الذي يميّز الظاهرة الإنسانية”، وهذا يعني أنه لا يوجد إجابات بسيطة عن أسئلة أي مجتمع كان، فكيف الحال مع المسألة السورية البالغة التعقيد، وفي هذا السياق، الأزمة القائمة في سورية منذ عام 2011 حتى الآن، هي نمط من الحروب الجديدة، التي يجري الاستثمار فيها في الهويات ما دون وما فوق الوطنية، بهدف تفتيت الدولة الوطنية وفرط عقدها الاجتماعي وإعادة تشكيلها من جديد، بما يخدم مصالح الدول الاستعمارية، وهو ما أشار إليه الرئيس الأسد بقوله: “لو كانت هذه الأحزاب (القومية)، ومنها حزبنا، تبنّت المفاهيم الطائفية أو العرقية لكانت قد دعمت من مباشرة من قبل الغرب، لأنها تتوافق مع الأهداف الاستعمارية التقسيمية”.
هذا، وتظهر مساعي الغرب التقسيمية بوضوح في حالة الدول التي تضمّ كياناتٍ اجتماعية متعدّدة ومتعارضة أحياناً لغوياً أو عرقياً أو دينياً، كالحالة السورية، إذ إنه في مثل هذا الكيان المركّب والمعقد، تتداخل عناصر الولاءات المحلية بالولاءات الوطنية ولا تتطابق فيه حدود الجغرافيا مع حدود الولاءات، وتنتج تعدّدية الانتماءات وتناقضاتها انقساماً في الهوية، يؤثر في حضور هوية وطنية جامعة، إذ إن تحقق الأخيرة يكون بوجود ثقافة قابلة لأن تكون قاعدة لإجماع، وهذا يتطلب سياسة ثقافية تملك وسائل تحقيقها المادي والمعنوي، ونظرية تواصل تضمن مشاركة الجماعة وتوفر كل السبل لذلك، وخصوصاً أن الشعوب حسبما بيّن الرفيق الأسد “تتفاعل مع بعضها لغوياً وثقافياً في المنطقة الواحدة، وفي المناطق المجاورة، ولا توجد قوة تستطيع أن تسيطر على هذه الديناميكية في الاتجاه نفسه وفي إطار تفتيت الهويات الاجتماعية أو الوطنية الموجودة إلى هويات تتصارع مع بعضها”.
بناءً على ما سبق، يبقى خيار تحقيق هوية وطنية جامعة، قائماً أمام السوريين، إذا ما اتفقوا على قائمة مبادئ وطنية في مقدمتها وحدة وسيادة واستقلال سورية التي تعدّ مصلحة سورية عليا، وأن يوحّدوا صفوفهم على برنامج عمل يستقطب كل الوطنيين، بغض النظر عن انتماءاتهم الإثنية والعرقية والدينية والسياسية، ويمثل حزب البعث العربي الاشتراكي أبرز القوى السورية لتقديم طرح جديد يوحّد الوطنيين، ويفرز الوطني عن غير الوطني منهم.
وفي سبيل تحقيق ذلك، يجب إدراك النواة الصلبة للجماعة حتى نتمكن من تعريف هويتها، أي معرفة سبب تماسكها وتلاحمها، إذ إن الجماعة تمثّل حالة اتحاد لإنتاج موقف جماعي موحّد، بغية تحقيق هدف مشترك، والهوية تمثل صيغة من صيغ التضامن الاجتماعي للجماعة، ويأتي هذا الشعور كنتاج لعمليات التفاعل والتكامل الاجتماعيين، ولعملية خلق فضاء ثقافي متجانس يتم عبره التواصل والتفاعل، ويشكّل أساساً لسلوك مشترك يسهم في تعزيز الشعور بالتوحّد مع الجماعة، ويرتبط بالإحساس بالقيمة والثقة، وتمثل القومية العربية النواة الصلبة للمجتمع السوري المتعدّد الانتماءات الدينية، لماذا العروبة لأنها الفضاء الثقافي والقيمي الأوسع لمجتمعنا ولانتمائه، وهي لا تتعارض مع أي تكوين ديني، فالمسيحيون عرب والمسلمون عرب، وهنا يؤكد الرفيق الأسد أن “الدين لا ينفي ولا يحل ولا يتعارض ولا يتناقض مع الهويات القومية للشعوب”.
فالدول التي تضمّ تكويناتٍ اجتماعية متعدّدة وتعاني من تشكيل هوية واحدة، إذ إن ذلك يسبب تداخل الولاءات الوطنية بالولاءات ما دون الوطنية وما فوق الوطنية، وهذا يؤدّي إلى حدوث انشطار في الهوية وعقبة في وجه تكوين هوية وطنية جامعة، حيث يبقى شعور الفرد بالانتماء إليها ضعيفاً، وبهذا تشكّل القومية الحل، على اعتبار أنها تتسع للجميع وتعزّز وحدة المجتمع وتقويه بالتسامح تجاه التنوع الثقافي والنقد والاختلاف.
وفي البحث عن مفهوم الانتماء، سنجد الكثير من المفكرين والسوسيولوجيين قد تناولوا فكرة الانتماء باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من عمق الشخصية الإنسانية بصورة عامة، على حين أن الولاء، يعكس الدلالة الفردية المباشرة لحقيقة وجود الناس في إطار حريّة اختيارهم وفقاً لمصالحهم الحياتية، ولاتجاهاتهم وميولهم في الفكر والسياسة.
إن الحل لتشتت الهوية، قد يكون في البحث عن مسببات التطابق بين الانتماء والولاء، بحيث ينحو كل منهما المنحى ذاته، فالانتماء الفعلي يفرض نفسه ويتجاوز حدود العامل الذاتي وأبعاده، وهذا يتم من خلال تمتّع الفرد بثقافة مواطنيّة وحقوقية، تمكّنه من تثبيت ولائه وانتمائه لهويته، فمشاعرنا بانتمائنا تظهر بممارساتنا وسلوكياتنا الفعليّة التي من خلالها نعبّر عن هويتنا وانتماءاتنا المتعدّدة المعبّرة عن شخصيتنا، علماً أن الهوية ليست معطى منجزاً جاهزاً في كل حيثياتها بل تحمل جانباً متغيّراً، يتحرّك في سيرورة دائمة ليلائم التغيّرات المحيطة ويتسع ليسع الجميع، بمعنى أن أية هوية ومنها الهوية العربية السورية يجب أن تمتلك أدوات العصر حتى تتمكّن من مواجهة التحدّيات المحدقة بها.