زيناتي قدسية في “الرأس والذنب” إضافة فنية ومواقف وعظية
حمص- آصف إبراهيم
أصبح التعاون المثمر بين الفنان والمسرحي العتيق زيناتي قدسية ومسرح قومي حمص يشكّل ظاهرة مسرحية دورية تقترب من سمات المشروع الفني الهادف، فكرياً وإحيائياً، من حيث فاعليته ومقدرته على كسر الرتابة والجمود في المسرح وإنعاشه من حالة الاحتضار، كما يؤكد هذا الحضور الجماهيري وتفاعله اللافت مع العروض المسرحية استمرارية الحاجة إلى هذا التفاعل الإنساني بين المتلقي وفن الإداء المسرحي الذي يصارع من أجل البقاء رغماً عن تطور تكنولوجيا الاتصال والترفيه.
وبعد سلسلة عروض مسرحية قدّمها قدسية على مسرح ثقافة حمص خلال السنوات العشر الماضية بدءاً من عرض “القيامة ٢”، و”أبو شنار”، مروراً بـ”حفلة على الخازوق”، و”إعدام”، و”جحا والأصهب”، و”أبو زيد الهلالي”، و”أخوة الجنون”، وغيرها، يقف قدسية، اليوم، على الخشبة ذاتها في العرض الجديد “الرأس والذنب”، مؤلفاً ومخرجاً وممثلاً، مع مجموعة من ممثلي قومي حمص والشباب الهواة الذين يصنع من عشقهم للمسرح، ممثلين قادرين على التماهي مع الأداء الاحترافي المتقن والرصين.
ولا يبتعد فدسية في هذا العرض كثيراً عما قدّمه في عروضه السابقة على صعيدي الفكرة والأسلوب لدرجة بات معها رهين القوالب الجامدة، على الرغم من محاولاته الارتجالية المعهودة، وحرصه الدؤوب على تكوين تفاعل جماهيري مع العرض من خلال الدخول من بين الجمهور في المشهد الافتتاحي ومخاطبة المتلقي لكسر الإيهام البريختي المعروف، وتوظيف الغناء المباشر، ومحاولاته الدائمة خلق أسلوب كوميدي ساخر للتهكم من ظاهرة واقعية آنية، مستعيناً بشخصيات وملامح تاريخية يستعيدها، شكلياً، بالأسماء والأزياء، لمحاكمة سلبيات الواقع الراهن، أو لتسجيل مواقف من قضايا اجتماعية ووطنية مصيرية، هو عرف وثيمة بات يتسم بها قدسية ويميل إلى استحضارها من دون تطوير أو ارتقاء فني يذكر، فهو في “الرأس والذنب” نراه في شخصية “أبي الغصن جحا” الذي يجتمع الناس في دكانه للاستماع إلى طرائفه المعهودة، ويخفّف عنهم معاناتهم ضيق العيش ومصاعب الحياة، لكن هذا لا يروق للسلطات وتجد فيه تحريضاً للعامة عليها، لأنه يحاول نشر الوعي بين الأهالي ويحرضهم على التمرد ضد الاحتلال والظلم، فتغلق الدكان وترسله إلى زوجته “أم الغصن” المرأة التقليدية التي لا يروق لها ما يفعله زوجها، حيث يضعنا قدسية في الأجواء العثمانية من خلال اللكنة التركية التي يستخدمها الوالي والشاويش، لكنه يبثّ من خلال ذلك رسائل آنية تحضّ على مقاومة الاحتلال وعدم الرضوخ إلى الأمر الواقع مهما كان حجم التحدي، على الرغم من أنه يقع، غالباً، في مطبّ التهريج والجمل الوعظية والأسلوب الخطابي المرتجل أحياناً، ليثبت للمتلقي حرفيته العالية في التعامل مع خشبة المسرح وتوليفات العرض المسرحي، لكنه يؤكد دائماً دور الممثل الأول والأخير في تكوين المشهد ونقل الفكرة من دون الحاجة إلى العناصر المساعدة، ولهذا نجده يتحرك مع الممثلين ضمن فضاءٍ خالٍ إلى حدّ ما، من الديكور، إنه يراهن على إمكانيات فريقه التمثيلي في الاستحواذ على انتباه المتلقي وشدّه للتفاعل مع الحوار والمواقف الكوميدية التي يحرص في عرضه أن تكون عفوية ومقنعة.
لكن وعلى الرغم من كلّ الطروحات السابقة يبقى مشروع قدسية المسرحي ذا أهمية كبيرة للحركة المسرحية وإضافة فنية مهمّة في ظل إحجام الكثيرين -ممن عرفتهم خشبات المسارح نجوماً، محترفين وأصحاب رسالة فنية إنسانية مجردة من أي مآرب ذاتية ضيقة- عن الاستمرار وتحدي الظروف الراهنة.