دراساتصحيفة البعث

في تجديد الفكر القومي.. (العروبة والإسلام) إعادة بناء العلاقة في إطار الثقافة العربية

مسألة تجديد الفكر عموماً هي مسألةٌ مرهقةٌ ومعقدةٌ، تحتاج إدراكاً للواقع بكلّ أبعاده وأنساقه المعرفية والاجتماعية، وتاريخه وظروفه، وإمكاناته وحاجاته، وإدراكاً مقابلاً لقواه وطروحه النظرية، والطروح النقيضة له، وهي مسألةٌ شاقةٌ، ولكنّها ضروريةٌ، فطالما الواقع متغيرٌ فالتجديد هنا استجابةٌ مستمرةٌ، وإلّا يقع الفكر في إشكالية التأخر التاريخي، والتجديد غالباً ما يتخذ مساراً من ثلاث: إمّا العودة إلى الأصول الفكرية، وإما الخطاب الإصلاحيّ، وإما القطيعة المعرفية باتجاه (خلق) منطلقاتٍ نظريةٍ جديدة، وتصبح مسألة التجديد أكثر صعوبةً بغياب مؤسساتٍ حاملةٍ لمشروع التجديد، فتبقى في الإطار الفرديّ الأكثر عرضة للنقد. وقبل البدء في بناء تصوّراتٍ فكريةٍ حول قضايا إشكالية في صميم البنية الثقافية العربية، لابدّ من البناء على افتراضاتٍ أساسيةٍ: أنّ الفكر القوميّ العربيّ لا يطابق تماماً مفهوم العروبة، فالأول عملية عقليةٌ أنتجها العقل العربيّ باعتباره مشروعاً وربما مشاريع هادفاً لنهضة، والثاني انتماءٌ لثقافةٍ وشعور بكينونتها، ورغم مساحات التقاطع بينهما إلّا أنّ التفكيك غالباً ما يسهم في بناء علاقةٍ سليمةٍ موضوعيةٍ بينهما. والافتراض الثاني، أنّ الفكر القوميّ كان ميكانزماً دفاعياً عربياً ضدّ آخر استعماريّ (أيديولوجيّ)، ولم يستطع بعد التحوّل لميكانزم نهضويّ موضوعيّ، بفعل الواقع العربي المأزوم باستمرار. والافتراض الثالث أنّ الفكر القوميّ العربيّ كان غالباً خطابياً جاهداً باتجاه إيجاد عوامل التوحيد في مواجهة واقع التجزئة، ولكنه لم ينجح في إيجاد الحامل الاقتصاديّ الرافع له، وتعثر في إيجاد الأنموذج النهضويّ التنمويّ الرافع لأيديولوجيته السياسية، انطلاقاً من ذلك ولضرورات التجديد الفكريّ لابدّ من نقد الواقع موضوعياً لبدء سيرورة التجديد، نقداً هادفاً لبناء وعيٍ قوميٍّ جديد، مستندٍ إلى طروح الماضي متجاوزٍ عثراتها، مبدعٍ لرؤى موضوعية باتجاه تشكيل فكرٍ عربيٍّ معاصرٍ قادر على النهضة الشاملة.

لم تنشأ الدولة في المجتمعات العربية نتيجةً لعقدٍ اجتماعيّ وسياسيّ أنتجته الخبرة المجتمعية والوعي الثقافي، أو ولّدته ظروف الصراع المجتمعيّ على القوة والسلطة والنفوذ، بل كانت الدولة الراهنة في المجتمعات العربية وليدة متغيّراتٍ وتوازناتٍ دوليةٍ أفرزتها وقائع الحربين العالميتين الأولى والثانية، بعد انغلاقٍ حضاريٍّ طويل – خلا الأمر تجارب مؤقتة – نتيجة سياسات التتريك والقمع العثمانية. بالعموم، ورثت الدولة في المجتمعات العربية عن حقبة الاستعمار مشكلاتٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ، ونجم عن سياساتها المتعثرة مشكلات مركبة، ولكن طوال العقود الماضية من القرن العشرين حتى الآن، لم تستطع بالمجمل أن تحلّها، لذلك تزايدت تلك المشكلات حالياً وتحوّلت إلى أزماتٍ تعصف بوجودها، ولعلّ أبرزها الهوية الوطنية والمسائل المرتبطة بها كالاندماج السياسيّ – الاجتماعيّ لتكويناتها الإثنية، فالهوية ليست قالباً جاهزاً يمكن بناؤه أو استرداده في أيّ لحظة، فهو شعور بالانتماء موسوم بالولاء، وممارسةٌ سلوكية تُبنى مع تطور التجربة، وتوفر عنصريّ الإرادة الوطنية، والحاجة الموضوعية الوطنية، وقلنا الحاجة الموضوعية حتى لا تُبنى الهوية في إطارٍ أيديولوجيّ يقوم على مواجهة آخر، تتعرّض بعده تلك الهوية لنكساتٍ حالما تضعف الأيديولوجيا أو تتفكّك.. اعتمدنا هذا المدخل كمقدمةٍ للحديث عن إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام التي هي جزءٌ من النقاشات الموسّعة حول إشكالية الهوية في المجتمعات العربية، وتكمن تلك الإشكالية في تحديد شكل العلاقة بين العروبة والإسلام، أيّهما يحمل الآخر، العروبة أم الإسلام؟ في سبيل تشكيل هويةٍ جامعةٍ للمجتمع، وهو ما شكّل جوهر الخلاف بين التيارين القوميّ والإسلامويّ، ولكنه في الوقت ذاته -برأينا – لم يكن طرحاً سليماً من الطرفين، فالمشكلة لم تكن في ثنائية العلاقة بين العروبة والإسلام بقدر كونها بين (القومية والاسلاموية) كطروح أيديولوجيةٍ سياسية، فمن جهة لم تُراعِ الطروح الدينية –على الأقل بعضها أيّ الاسلامويات- البعد التاريخي للعروبة وتاريخيتها، متخذةً من معاداة القومية والعلمانية والديمقراطية أساساً لمشروعها السياسيّ، طارحة البديل الإسلاموي المتمثل بالأمة الإسلامية، الشورى، وتكفير العلمانية، فـالحضارة برأيهم لم تكن عربيةً وإنما كانت إسلاميةً، ولم تكن قوميةً وإنما عقديّة، وفي الوقت ذاته وكأغلب التيارات القومية السياسية في العالم، لم يكن الدين حاضراً في التشكيل الفكريّ القوميّ في بداياته على اعتبار أنّ “العلمانية المتصلبة” كانت أحد مكوّنات الطرح القوميّ حينها، وتم تجاهل أهميته وخصوصيته في بداية الحركة القومية العربية وليس تجاهل الدين كعقيدة، لكن لاحقاً ومع عودة انتشار التيارات الدينية وخصوصاً في المجتمعات العربية بعد نكسة 1967، تم العمل على إدماجه في الثقافة القومية فهو قوةٌ روحيةٌ وجزءٌ من الثقافة المشتركة للمجتمعات العربية لا يمكن تجاهلها، وعلى مدى عقود من العمل السياسي ابتدأت قبيل تشكّل الدولة القطرية وحتى راهناً، اتسمت العلاقة بين التيارين القومي والديني الإسلامي على تنوّعه بالجدل الفكري، وهو ما يدفعنا إلى تفكيك العلاقة بينهما في ثقافتنا العربية على الشكل التالي: العلاقة بينهما ليست علاقة (تضاد) فالقومية أيديولوجيا على الأقل في طرحها، والإسلام دين في جوهره، ولا يحصل التضاد إلّا بحالةٍ واحدةٍ فقط، هي عدّ العروبة أيديولوجية سياسية، وكذا الأمر عدّ الدين أيديولوجية تحمل سمة سياسية (زمنية ودينية) وأنموذجها التطبيقي الإسلاموي، والعلاقة ليست اندماجية، لأنّه حينها ولأسبابٍ تتعلق بالبنية السياسية العربية وتكوين السلطة فيها، سيحصل تدين للسياسية (أسلمة للعروبة)، وتسييس للدين (إسلاموية أو قومنة للدين)، وفي هذا تخريب للثنائية وعدم انسجام داخلي في كلا الطرحين، والعلاقة ليست تماثلية فالعروبة كقوميةٍ هي أيديولوجيا سياسية، أمّا الإسلام فهو دين شامل (عبادة وأخلاق وقيم..)، ومجرد طرح فكرة التماثل سينزع الطرح القومي الفكري إلى “القداسة” في طروحه، وهو مقتل للفكر لأنه يمنع النقد، وبالتالي التقويم المستمر للفكرة، وهو ما يدفعنا إلى تبني العلاقة (الحضارية) بينهما والتكاملية بطبيعتها، فالعلاقة برأينا حضارية ثقافية، وهذا يستلزم منا تحديداً دقيقاً لمعنى العروبة هل هي رابطٌ سياسيّ؟، أم رابطٌ ثقافيّ؟، وهنا نعتقد أنّ الإشكال يكمن فقط في الشق السياسيّ من السؤال، بمعنى هل العروبة رابطٌ سياسيٌّ (قومي أيديولوجي) أم ثقافيٌّ؟، وهنا لدينا طرحان: الطرح الأول هو ربط القومية (كأيديولوجيا سياسية) بالعروبة، باعتبارهما معنىً واحداً، وفي هذا تحجيم للعروبة في قالبٍ سياسيٍّ واختزالٌ وهدرٌ للبعد الحضاري للعروبة كوعاءٍ جمع أكثر من قوميةٍ في منطقة جغرافية مكتظةٍ بالإثنيات، فالعروبة هويةٌ ولغةٌ وتاريخٌ وحضارة لا يمكن اختزالها في أيديولوجية، وعدّها أطروحة متكاملة، وهنا نتفهم الحاجة الموضوعية للتوظيف الأيديولوجيّ للعروبة في قالبٍ سياسيٍّ لمواجهة التحديات الثقافية التي عانت وتعاني منها المنطقة كالتتريك والفرنسة وسواها راهناً من تحدّياتٍ ثقافية وتقنية، ولكن لا يجوز التعامل معهما كماهيةٍ واحدة.

والطرح الثاني هو عدّ العروبة رابطاً ثقافيّاً، والقومية هي المكافئ للثقافة العربية، باعتبار أن هذه الثقافة تعدّديةٌ لا واحدية، بمعنى وجود ثقافةٍ عربيةٍ مشتركةٍ ومتنوعةٍ في آن، وهيّ مستمدة في الأساس من البنى والروابط العائلية والطبقية وأنماط المعيشة والإنتاج، مع اللغة العربية وآدابها والدين الإسلاميّ وقيمه والمسيحيّ وتعاليمه، وبالتالي الثقافة العربية ليست مكوناتٍ ثابتةً ساكنة جامدة ومطلقة ومنغلقة تصلح لكلّ زمانٍ ومكانٍ، بل هيّ متطورةٌ باستمرار، مرنةٌ نسبيةٌ منفتحةٌ متحولةٌ نتيجة لتغيّر الأحوال والأوضاع والأزمات الداخلية والخارجية، وهو ما ينعكس على العروبة التي تصبح أيضاً ديناميةً مرنةً منفتحةً متطوّرةً لم تكتمل في حقبةٍ زمنيةٍ معيّنةٍ بل هي في تطورٍ دائم، لا يجوز معها قولبتها بإطار أيديولوجي جامد أيّ تحديداً القومية كأيديولوجيا سياسية فقط.

لذلك وختاماً، فإن تغليب المفهوم الثاني أي العروبة (كثقافة وحضارة) يخرجنا من مأزقٍ تاريخيّ وهو إشكالية العلاقة بين القوميّ والدينيّ، على اعتبار أنّ الثقافة الإسلامية هيّ مكونٌ أصيلٌ ومهمٌ وثابتٌ في بنية الثقافة العربية.

د.سومر منير صالح

عميد كلية العلاقات الدولية جامعة الشام