البعث”.. أسئلة الراهن والقادم
أحمد حسن
خلال السنوات الماضية، أغرقتنا “الميديا” الموجّهة ومراكز “الثينك تانك” الكبرى، بـ “حقائق علميّة” ومعرفيّة عدّة كان علينا – وعلى عالم الجنوب بأسره – الإيمان بها واعتناقها دون مناقشة أو تفكير، لأن “الشك” بها ومساءلتها موضوعياً اعتُبر بوابة خروج من عالم الغد الذي تبنيه “عولمة” لم يرد منها “الرجل الأبيض” سوى أن تساهم في “تبييض” وتحديث سيطرته على ثروات العالم ومقدراته المادية والبشرية.
من هذه “الحقائق” كانت المقولة التي تتحدث عن تميّز العالم المعاصر “بالتطور المنتظم للتكنولوجيات، والانحطاط الدائم للأيديولوجيات”.
وإذا كان التطور المنتظم للتكنولوجيات حقيقة لا يمكن نكرانها، فإن الكلام عن الانحطاط الدائم للأيديولوجيات لم يكن في حقيقته إلّا خدمة لأيديولوجيا جديدة ناشئة بهدف السيطرة على العالم عبر تفتيته وإشاعة الفوضى في أرجائه بكل الوسائل الممكنة، وهو أمر ألقى – ويلقي – بتحديات كبرى أمام الساعين لحريتهم وكرامتهم واستقلالهم الوطني، ومن بين هؤلاء، وعلى رأسهم، الأحزاب الساعية إلى الانخراط بقضايا مجتمعاتها، وقيادتها نحو عالم أفضل.
وبالتأكيد، فإن حزب البعث العربي الاشتراكي هو من أوائل وأهم الأحزاب التي انخرطت، ومنذ ما قبل منتصف القرن الماضي، في قضايا مجتمعها، وأمتها كافة، سواءً على المستوى القطري أو القومي، ولأن هذه القضايا تتغيّر وتتشابك وتتعقّد نظراً لتغيّر وتعقّد أساليب الاستهداف، فإن إعادة “القراءة” في أيديولوجيا الأحزاب الوطنية، ومنها “البعث”، للمواءمة مع ظروف وتحديات المرحلة القادمة، هي أمر هام ومصيري لذلك جاء التمهيد للصورة الأحدث منه من طرف الرفيق الأمين العام للحزب الدكتور بشار الأسد، حين طرح أمام اجتماع اللجنة المركزية الموسع، خطوط تفكير وتعبير، في النظري والعملي، تاركاً المجال العام – بشكل مقصود ولغايات سامية – مفتوحاً أمام الجميع “على النقاش والحوار على المستويات الحزبية والوطنية” كافة.
وإذا كان الحزب السياسي “مجموعة من الأشخاص جمعتهم مصالح أو معتقدات مشتركة، أو ينادون بمذهب سياسي واحد، نظموا أنفسهم وعبئوا مواردهم لغرض ممارسة السلطة السياسية”، وإذا كانت الأحزاب السياسية قد نشأت تاريخياً كي تكون “الوسيط الذي يردم الهوّة بين السلطة والمجتمع”، فهذا ما يستدعي من المهتمين إعادة التفكير والتأصيل لتحديد هذه “المجموعة من الأشخاص”، ثم تعيين “المصالح أو المعتقدات المشتركة بينهم”، والانطلاق لاحقاً نحو صياغة “النظريّ” في الحزب وتأصيله.
ولأن وقائع اليوم وحقائقه تقول إننا، كدول وأحزاب، نواجه تداخلاً لافتاً بين زمنين لا يمكن تجاهل ترابطهما الوثيق، أولهما، زمن حرب إرهابية كبرى تُخاض ضد الساعين لاستقلال الإرادة، وثانيهما زمن “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، فإن المطلوب من “البعث”، ليس التخلي عن شعاراته الكبرى في الوحدة والحرية والاشتراكية، فتلك أهداف سامية لا حياة للأمة قبل تحقيقها، لكن عليه إعادة تعريفها وربطها بتلك الأقانيم الثلاثة، في اللحظة ذاتها التي يواجه فيها الحرب الإرهابية، وذلك تحدّ كبير دون شك لكن حزباً “مازال قوياً، مؤسسة وعقيدة، رغم وجود كثير من السلبيات التي يعد ضعف ممارسة عملية التطوير أحد أهم أسبابها”، كما قال الأمين العام، هو حزب قادر على المواجهة وإعادة تدوير عجلة التطوير كما اعتاد دائماً.
وكي نكون أكثر دقة ومباشرة فإنه يمكن للحزب البدء بالعمل على “ترشيق” الجانب النظري لديه باعتماد مفاهيم جديدة وإضافتها إلى مفردات عمله الفكرية مثل مفهوم “الحق في التنمية”، فهو مفهوم يلخّص أغلب مفاهيم “الحقوق الإنسانية” في حق واحد؛ لأنه يتجاوز معنى النمو الاقتصادي، أي الوفرة المادية، فحسب، “ليشمل الجوانب المعنوية، مثل الحرية واكتساب المعرفة وحق التمتع بالجمال واحترام الكرامة الإنسانية والمشترك الإنساني، وذلك لا يتم إلا بالاستناد إلى نهج متكامل يعتمد على مبدأ المشاركة لا الإقصاء في كل المجالات”، وبذلك يمكن تحديد، وتحديث، مفهوم الحزب “لجماهيره” ذوي “المصالح أو المعتقدات المشتركة بينهم”، في ظل ثورة الاتصالات الهائلة التي فتحت للجميع فضاءات مفتوحة للمعرفة والموازنة والمقارنة والتعبير والاحتجاج والنقد والتعبئة، وبالتالي الانطلاق نحو إعادة النظر في قضايا عدّة كقضية “التنسيب” ونظرية الكم الذي ينتج الكيف، والتي أثبتت التجارب الانتخابية أنه يُثقل هذا الكيف ويشلّ عمله بحسابات ما قبل الدولة (عشائرية، مذهبية، مناطقية،..الخ)، وخاصة حين تغيب أو تضمحل الطبقة الوسطى التي طحنتها الحرب وتبعاتها الاقتصادية لأنها الرافعة الحقيقية للمشاريع الوطنية، وإلى جانب ذلك يمكن التساؤل مثلاً عن جدوى بقاء مفردات معينة مثل “انقلابي” في دستور الحزب، فبغض النظر عن المعنى “الثوري” لها في زمن تدوينها، إلّا أنها كلمة “منفّرة” على الأقل للأجيال الجديدة، وتشي في دلالاتها اللغوية الحالية إلى أحداث لا نريد استعادتها بكل تأكيد.
بالتأكيد.. هذا جزء صغير من المهام النظرية التي يُفترض بنا إعادة قراءتها في ظل الرؤية التجديدية، والعملية، للرفيق الأسد.. وذلك هو بعض تحدّي الراهن والقادم معاً.