الليرة السورية.. إجراءات نقدية لضبط التضخم وتحسين القيمة وخطوات لتشجيع الاستثمارات
دمشق- إبراهيم مخلص الجهني
تظلّ الليرة السورية محطّ اهتمام وترقب الكثيرين، فهي ليست مجرد عملة، بل رمز لاستقرار الاقتصاد ورفاهية المواطنين، ومع ذلك، تشهد الليرة تقلبات مستمرة وتحديات متعدّدة، فتتأثر بعوامل داخلية وخارجية تجعل من تحديد نقاط قوتها وضعفها مهمّة حيوية، ومع كل تحدٍّ وصعوبة يظلّ الشعب السوري يتمسك بأمله ويسعى جاهداً لتجاوز الصعاب، مما يجعل دراسة قوة وضعف الليرة السورية أمراً لا غنى عنه لفهم تحديات الاقتصاد السوري في الوقت الحالي وتوقعاته المستقبلية، حيث تعتبر الليرة أحد المواضيع المحورية التي تثير اهتمام الكثيرين نظراً لتقلباتها المستمرة وتأثيرها على حياة السوريين.
عوامل القوة
الباحث في الشؤون الاقتصادية، الدكتور رازي محي الدين، أكد خلال حديث لـ «البعث»: إننا في سورية نعاني تحدياً في تحديد الأرقام الدقيقة لعدة أسباب؛ الأولى هي غياب الأرقام الرسمية، والثانية وجود اقتصاد ظليل كبير في سورية، ويمكن تحديد العوامل المؤيدة لليرة في وجود تقديرات تشير إلى أن عدد السوريين خارج سورية يتجاوز الـ 6 ملايين، وبالتالي يتم دفع مبالغ مالية كبيرة لتجديد جوازات السفر وتسديد الرسوم الأخرى، وإذا فرضنا الحدّ الأدنى لتلك الخدمات، فإنها تصل تقريباً إلى 2 مليار دولار.
ويضيف الباحث محي الدين أن أكثر من 80% من السوريين يعتمدون على تحويلات الأقارب من الخارج، وتقدّر بنحو 1000 دولار سنوياً كمتوسط، مما يجعل الحوالات إلى سورية تقدّر بمليار دولار، ويقدّر بدل الخدمة الإلزامية بنحو نصف مليار دولار سنوياً، كما يتراوح عدد الزوار إلى سورية نحو المليونين، وتقدّر عائدات هذه الزيارات بمليار دولار سنوياً بوسطي إنفاق ٥٠٠ دولار، أما في قطاع السياحة فيقدّر عدد السياح بنحو 2 مليون، وتقدّر الإيرادات بنحو 600 مليون دولار بوسطي إنفاق 300 دولار.
قوة الاقتصاد
هنالك بعض العوامل الرئيسية التي تؤثر في أي عملة وطنية، منها قوة الاقتصاد الوطني ومدى استقراره، والعرض والطلب على هذه العملة في السوق الدولية، وسياسات البنك المركزي، والإنفاق الحكومي، وحجم الاحتياطيات النقدية، والقدرة الإنتاجية والتصديرية، والصراعات السياسية والمواجهات الجيوسياسية، وارتفاع معدل التضخم، لذلك من أهم العوامل الداعمة لليرة السورية، كما قدّمها الخبير الاقتصادي الدكتور مجد عمران في توصيف دقيق لليرة، هي السمة الزراعية للاقتصاد، الأمر الذي يشكل نوعاً من الاكتفاء الذاتي لسكان الأرياف من حيث تأمين المنتجات الغذائية الرئيسية، وسياسات البنك المركزي ودورها في مواجهة التضخم، في حين نجد أن بقية العوامل تترك أثراً سلبياً على الليرة. ولخّص عمران أن تأثير هذه العوامل يعتمد على تفاعلها مع بعضها البعض وعلى الظروف الاقتصادية والسياسية الراهنة، انطلاقاً من تحسن الاقتصاد الوطني ودعم الإنتاج وتنفيذ سياسات نقدية واقتصادية فعالة يمكن أن تسهم في دعم الليرة وزيادة استقرارها.
أما عن تأثير تدفق تحويلات السوريين من الخارج على الاقتصاد السوري وقيمة الليرة، فقد بيّن عمران أن تدفق الحوالات من الخارج يؤثر في البداية على تحسين المعيشة الشخصية للأسر التي تصلها هذه الحوالات، حيث يمكن استخدام هذه الأموال لتلبية الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والإسكان والرعاية الصحية، هذا يمكن أن يزيد من الاستهلاك المحلي ويقوي الطلب الداخلي، كما يمكن أن يساهم في عملية الاستثمار والتنمية عندما تستخدم هذه الأموال في بناء مشاريع جديدة أو دعم الأعمال الصغيرة والمتوسطة، الأمر الذي يمكن أن يحفز النمو الاقتصادي ويخلق فرص عمل جديدة، أما على صعيد الاقتصاد فهي تسهم بتقليل الضغط على الاحتياطيات النقدية الأجنبية للبلاد وتلبية الاحتياجات النقدية (وهو ما يلاحظ بوضوح في المناسبات والأعياد والتي تزيد فيها هذه الحوالات، وما يترافق مع تحسن في قيمة العملة)، ومع ذلك، يجب أن نلاحظ أن تأثير تحويلات السوريين على الاقتصاد وقيمة الليرة يعتمد بشكل كبير على كيفية استخدام هذه الأموال وعلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية الراهنة في البلاد.
السياحة داعم للاقتصاد
وحول دور السياحة والزيارات إلى سورية في دعم الليرة السورية، أشار عمران إلى أن السياحة تشكل داعماً قوياً لاقتصاد أي بلد لما تسهم فيه من تدفق العملة الأجنبية، وبالتالي زيادة الاحتياطيات النقدية للبلاد مما يعزز من قيمة الليرة مقابل العملات الأجنبية، كما أن تعزيز القطاع السياحي المحلي يخلق فرص عمل للسكان المحليين، سواء كان ذلك من خلال توظيفهم في الفنادق والمطاعم أو من خلال تقديم الخدمات السياحية الأخرى مثل الجولات السياحية والتسوق، هذا يزيد من الدخل المحلي ويعزّز الاستهلاك المحلي، مؤكداً أن السياحة تعزّز السمعة الدولية، وبالتالي فإن اعتبار أي بلد كوجهة سياحية متميزة يجذب مزيداً من الاستثمارات الأجنبية المباشرة ويعزز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع البلدان الأخرى، وكثير من الدول تعتمد على السياحة لتنويع مصادر الدخل الوطني.
وأضاف محي الدين أن هجرة الاستثمارات والادخارات تقدّر حسب حجم الاستثمارات السورية الجديدة في الخارج بـ 1 مليار دولار كحدّ أدنى، ومصروفات شراء القمح من شرق الفرات السوري بنحو مليون طن وتقدّر بـ 350 مليون دولار، لذلك نلاحظ شبه استقرار سعر صرف الليرة السورية في الآونة الأخيرة، وإذا تمكنت الحكومة من توجيه فوائض الأموال للأسواق المالية وزيادة الرواتب وتشجيع المستثمرين، فإننا قد نشهد تحسناً في قيمة الليرة، مؤكداً أنه لا يتحدث عن موازنات حكومية أو ناتج محلي فهي تحتاج لمعادلات أخرى، بل يتحدث عن كافة العوامل التي تؤثر على الليرة، سواء كانت محلية أم وطنية أو سوق سوداء أو تغير ثروة، كما أن الأرقام تقديرية، وقد تكون الفعلية أكثر من ذلك بكثير أو أقل، لكنها طريقة مبسطة لمعرفة العوامل التي تؤثر على الليرة وكيفية التأثير عليها وتوجيهها.
من جهة أخرى، قال عمران إن العوامل التي تسهم في تدهور قيمة الليرة متعدّدة، منها استمرار سيطرة الجماعات الإرهابية على منابع الطاقة وسرقة الثروات الوطنية، والعقوبات الاقتصادية التي تشهدها البلاد، والتوترات الجيوسياسية في المنطقة، ومعدلات التضخم العالية، والنقص في الاحتياطيات النقدية للبلاد بالعملات الأجنبية، وتباطؤ الصادرات وتدني معدلات النمو الاقتصادي، والتدهور في البنية التحتية ونقص الاستثمارات الأجنبية في البلاد، والتغيرات السياسات الاقتصادية العالمية، مثل سياسات الفائدة والتجارة الدولية، مشيراً إلى أن مواجهة هذه التحديات تتطلّب التعاون والتنسيق بين الحكومة والقطاع الخاص والمؤسسات الدولية، بالإضافة إلى اتخاذ سياسات اقتصادية ومالية فعّالة ومتوازنة تستهدف تعزيز النمو الاقتصادي المستدام وتعزيز قوة العملة المحلية.
مقترحات الدعم
اقترح الدكتور رازي محي الدين عدة خطوات تسهم في دعم وتوجيه الليرة السورية، وهي ضبط عمليات الإقراض، ورفع سعر الفائدة على القروض وربط المنح بالبيانات المالية الرسمية، حيث تعتبر عملية أخذ القروض وقلبها إلى دولار السبب الأكبر والأول لانهيار الليرة، وعندما تمّ ضبط الإقراض بعامي 21 و22 كان هناك شبه استقرار، وتشجيع البنوك والمستثمرين للاستثمار المالي لفوائضهم بسوق دمشق للأوراق المالية الذي يعتبر واعداً، حيث إن أسعار أسهمه أقل من صافي القيمة الحقيقية العادلة لأصوله بكثير، بالإضافة إلى رفع أسعار العوائد على السندات الحكومية والصكوك لكي تصبح جذابة للبنوك والمؤسسات وتشجع المدخرين أن يدخروا أموالهم بالليرة، ودعم مشاريع الشباب بحاضنات أعمال للمشاريع الريادية والتقنية ورفع الحدّ الأدنى المعفى من الضريبة بهدف الحفاظ على الشباب والتخفيف من الهجرة، وزيادة الرواتب والأجور بهدف تقوية السوق المحلي والتشجيع على الاستثمار، فالمستثمرون لا يدخلون أسواقاً ذات قوة شرائية ضعيفة، وإيجاد حلول جاذبة لقضية الاحتياط والخدمة بهدف الحفاظ على الشباب والمدخرات من الهجرة، وتحرير الأسعار، وخاصة أسعار الصحة والتعليم والخدمات، لأن أكثر الصناعات خسارة هي هذه القطاعات بسبب تقييد التسعير الذي أضرّ بالخدمات وأدى لهروب الأموال والكفاءات، وبالتالي فإن توجيه العوامل المؤثرة على الليرة بشكل صحيح يضمن تحسّن مناخ الاستثمار وتخفيف الضغط على الليرة الناتج عن هروب الكفاءات والأموال والمضاربة على الليرة، ويساعد لاحقاً بعودة منتظمة لهذه الأموال والكفاءات.
بدوره الدكتور مجد عمران تحدث عن الحلول الحكومية التي يمكن أن تسهم في تحسين قيمة الليرة السورية ودعم الاقتصاد، ومن هذه المقترحات تنفيذ سياسات نقدية ومالية للحدّ من التضخم وتعزيز الثقة في الليرة، على سبيل المثال، يمكن رفع معدلات الفائدة للحدّ من التضخم، وتبني سياسات مالية تحدّ من الإنفاق العام للتحكم في العرض النقدي، وتشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية من خلال توفير بيئة استثمارية ملائمة وتقديم حوافز مالية وضريبية للمستثمرين.
وأوضح عمران أنه يمكن دعم القطاعات الاقتصادية الحيوية وتنمية الصناعات المحلية لتعزيز النمو الاقتصادي، وتعزيز الصادرات من خلال تطوير القطاعات الصناعية والزراعية، وتحسين القدرة التنافسية للمنتجات المحلية في الأسواق الدولية، كما يمكنها الترويج للتجارة الخارجية من خلال توقيع اتفاقيات تجارية مع الدول الأخرى، وتبسيط الإجراءات الإدارية وخلق بيئة استثمارية مناسبة، وتقليل البيروقراطية لتسهيل إنشاء الشركات وتشغيل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والعمل على تحسين البنية التحتية وتوفير الخدمات الأساسية ومصادر الطاقة مثل الكهرباء والمياه لدعم الأعمال، والتعاون مع الدول الحليفة والصديقة والمنظمات والمؤسسات الدولية للحصول على الدعم المالي والفني لتنفيذ برامج التنمية والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وإعادة الإعمار، وتنفيذ سياسات للتحكم في العملة الأجنبية وتقييد تداول العملات الأجنبية، مؤكداً أن تنفيذ هذه السياسات والإجراءات بشكل فعّال ومتوازن يتطلّب التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، بالإضافة إلى الالتزام بالشفافية ومكافحة الفساد.
بناءً على ما سبق، نجد أن الليرة السورية تحمل عبء التقلبات الاقتصادية والسياسية، مما يعكس الوضع العام للاقتصاد السوري، وأن الوصول إلى استقرار اقتصادي ونمو مستدام في سورية، يتطلّب إجراءات اقتصادية وسياسية جذرية، وتحفيز الاستثمارات الداخلية والأجنبية، وبالتالي نحن بحاجة إلى تدخلات حكومية فعّالة لتقليص الفجوة بين سعر الصرف الرسمي والسوق السوداء.