فلسطين.. سيرة المكان والذاكرة
أمينة عباس
أثارت الندوة التي عقدتها أكاديمية دار الثقافة، مؤخراً، في المركز الثقافي العربي بـ “أبو رمانة” بعنوان “سيرة المكان والذاكرة” شجون المشاركين فيها الدكتور علي بدوان والأستاذ أحمد أبو سعود والأستاذ أبو علي حسن والناقد أحمد هلال، وكل من حضر من الذين هُجّروا من قراهم في فلسطين، ولسان حالهم يردد ما كان يردده الشاعر أحمد شوقي: وطني لو شغلتُ بالخلد عنه نازعتني إليه بالخلد نفسي.
تناسلت ذكريات المشاركين وحضرت الأمكنة بمسمياتها، فمنهم من ولِد فيها ومنهم من عرفها بأكثر تفاصيلها دقةً، من خلال مرويات الأجداد والآباء الذين وإن هُجّروا منها نتيجة الاحتلال، لكنها رحلت معهم وتجلّت لدى من لا يعرفها بأبهى صورها، وظل الحنين والحلم بالعودة إليها هو الثابت في ذاكرتهم التي اختزنت شوارعها وساحاتها ومقاهيها وأشجارها ليعود إليها أصحابها عبر الأحلام والخيال وليكون التمني دوماً ألّا يحول الموت دون الرجوع إليها، والذي إن حضر فسيتناقل الأبناء والأحفاد هذا الحلم.
حضرت حيفا ويافا وعكا وصفد ونابلس وكل المدن الفلسطينية في كلمات المشاركين ليؤكدوا أنه وعلى الرغم من محاولات إبادة الجسد والمكان قبل النكبة وبعدها لكن علة النسيان لم تغزُ ذاكرتهم وذاكرة الإنسان الفلسطيني في زمن يُطلق عليه زمن الحداثة.. يقول الدكتور علي بدوان: “إنها التراجيديا الفلسطينية التي اقتلعتنا من حيفا ومن قضاء غزة والرملة ومن نابلس وطولكرم ورام الله والقدس والخليل لنهيم على وجهنا في شتات الدنيا، لكن الماضي والراهن الوطني مازال حياً ينبض، أعشق العودة اليه، وقد ارتويت بسماعه من الذاكرة الشفهية لأجيال عاشت في فلسطين، فعرفت دارنا المبنية بالحجر الجميل بالقرب من شاطئ البحر في مدينة حيفا، حيث تفيض بي المشاعر وتأخذني والذكريات بكل ما فيها من لحظات.. إنها نوستالجيا حب وحنان المكان والزمان في وطن عاش ومازال فينا.. أعطتنا فلسطين قبل القدوم القسري لعائلتي لوطننا السوري جينة من جيناتها، أخذنا منها الهواء والماء والتربة والرائحة التي تخالها المسك والعنبر والعقيق، كما أعطتنا سر الوجود وإكسير الحياة والبلسم الشافي”، ومع أن العدو حاول تغييب المكان بتدميره وتغيير اسمه يؤكد بدوان: “أوابدنا وشواهدنا مازالت وأقوى من أن تُهزم، وحتى بدمارها موجودة على أرضنا وطناً في الجليل والمثلث والنقب والساحل، وصولاً إلى مدن حيفا ويافا وعكا وغزة وصفد والمجدل والناصرة واللد وكل منطقة تنطق وتعلن أن فلسطين لنا”.
أما الباحث أحمد أبو سعود فتحدث عن قريته التاريخية بيت فوريك، والتي تُعدّ مركزاً لحراسة القوافل التجارية الرابطة بين الشرق والغرب: “اسمها يعني بيت فينيق، أي بيت الحراسة، وتضمّ أراض زراعية، وتتمتع بخيرات كثيرة ما جعلها مطمعاً للاحتلال”، وقد تسنّى له البقاء فيها حتى عمر الواحدة والثلاثين، حيث تم اعتقاله ومن ثم طرده وإبعاده عن فلسطين، تاركاً وراءه كل أفراد عائلته هناك، وأشار أبو سعود إلى أن الذاكرة تعادل الهوية، وأنّ مقدمات النكبة حدثت قبل العام ١٩٤٨ والفلسطيني يعيشها كلَّ يوم، وأن الصراع مع العدو جوهره الأرض التي يحاول انتزاعها من أهلها، في الوقت الذي كان فيه الفلسطيني متمسّكاً بها دفاعاً عن وجوده: “المكان بالنسبة للفلسطيني ليس فقط المكان الجغرافي بل الذي يُصنَع فيه التاريخ، وما نشهده اليوم في فلسطين هو حرب وجود (نكون أو لا نكون) والحديث عن فلسطين هو الحديث عن شعب لا يمكن أن يستسلم”.
وأشار مدير الندوة الناقد أحمد هلال قبل تعريفه بقريته التي ينتمي إليها إلى حرب الذاكرة التي يخوضها الشعب الفلسطيني أمام محاولات العدو لتهويد كل شيء، ومنها الأمكنة التي هُجّر منها الفلسطيني، مع محاولات العدو تغيير أسمائها لطمس الهوية الفلسطينية، ورأى أن الفلسطيني لا ينتمي لفضاء جغرافي غير معلوم بل إلى أمكنة معروفة سعى كل فلسطيني لأن تبقى في ذاكرته ووجدانه: “الذاكرة تعادل الهوية، واستعادة الذاكرة هي استعادة للهوية” مع تأكيده على أن حديث المشاركين عن الأمكنة التي ينتمون اليها هو الحديث عن فلسطين ككل، مشيراً إلى قريته الزنغرية التي تقع في قضاء مدينة صفد المحتلة عام ١٩٤٨ وتقوم على أرض منحدرة، وتمتد من السفح الجنوبي الشرقي من جبل كنعان حتى مشارف نهر الأردن “نهر الشريعة” حيث تبعد عنه مسافة ثلاثة كيلومترات، وتطل من الجنوب على بحيرة طبريا التي تبعد عنها نحو تسعة كيلومترات، وهي تضم مجموعة قرى تحيط بها مجموعة كبيرة من الخرب الأثرية التي تحتوي على أكوام من حجارة وأعمدة البازلت: “عُرف عن أهالي الزنغرية الإقبال على العلم والتعلم، وبرزوا بشكل ملفت بهذا الجانب بعد النكبة وقبلها، وقد تنافسوا في هذا المجال مع الآخرين مما أدى لارتفاع نسب المتعلمين بينهم، خاصة في مجالات الطب البشري، الهندسة، العلوم، التربية: “تشير التقديرات المستقاة من مصادر مختلفة لوجود نحو ٢٠٠٠ شخص من أبناء الزنغرية يحملون الشهادات العليا” وعلى الصعيد الوطني: “شارك أبناء الزنغرية في مسار العمل الوطني، وساهموا في خوض العديد من المعارك المشرفة، ومنها معركة زحلق والحولة”، مبيناً أنه تم تهجير أهالي الزنغرية ومن ثم إحراقها وتدميرها عام ١٩٤٨ ولم يبق منها اليوم إلا أكوام من حجارة، ويُشاهد بالقرب من بقايا المنازل بعض الحواجز الحجرية المستعملة حظائر ومرعى لمواشي مزرعة كاري ديشي الإسرائيلية المجاورة لها: “وقد استمر أبناؤها بعد التهجير في تنفيذ عمليات بطولية داخل فلسطين المحتلة”.
وعلى الرغم من تغيّبه عن الندوة وصف أبو علي حسن الوطن في مشاركته التي قرأها مدير الندوة قائلاً: “الوطن ليس قطعة أرض وحدود وتضاريس.. الوطن نبض حياة وسردية من المهد إلى اللحد.. الوطن يعشعش في الوعي ويشبه التعلّم في الصغر كالنقش على الحجر.. الوطن هو ذلك البيت الصغير الذي ولِدتُ فيه وعشتُ فيه، وهو تلك الشتلات والزهور التي تحيط بحدود بيتنا المغروزة في الأرض الحمراء المعطاءة، وهو جلسة اتكاء واستراحة تحت شجرة زيتون، وارفة بخضرتها صيفاً وشتاء، وحبّات زيتونها تزاحم بعضها على أغصانها، وهو تلك اللحظات الإنسانية في طفولتنا، وهو رفقة الأصدقاء في باحات القرية وهم يتسامرون في مساءاتها، وهو تلك اللحظات الحميمة أمام فرن الطابون الذي ما برحته أمي كل مساء لصناعة الخبز وإعداد الطعام، وهو طابور الصباح في مدرستي حين نهتف بمشاعرنا وحماسنا “إننا عائدون”.. الوطن هو طفولتي الطرية وأنا أتراقص بين حقول القمح والذرة وشجيراتها تفوق قامتي.. الوطن هو كل ذلك وتتجسد فيه كل معاني الأرض والتاريخ والذكريات والتراث والمشاعر والحياة الاجتماعية المشتركة.. هو حياة وحلم وفكرة تتأصل في الوعي.. الوطن يلاحقنا وإن نسينا”.