العقيدة والأيديولوجيا… ما بين الثابت والمتغير
د. أمجد حامد السعود
لا شك في أن مفهوم الأيديولوجيا قد تم تداوله كثيراً في أدبيات المعرفة الفكرية السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، من حيث المحاولات لتحديد تخصصي قياسي لهذا المفهوم، وصعوبة ذلك لارتباط المفهوم بالحياة المجتمعية المتغيرة بطبيعتها، ويضاف إلى ذلك إشكالية العقل العربي في تحديده وفهمه الصحيح للمفاهيم بشكل عام، وخصوصاً المفاهيم التي تحمل سيولة في آليات التجسيد على مستويات المجتمع كافة، وتكون حمّالة لأوجه مختلفة قد تكون سلبية أو إيجابية يكاد أن تكون معظمها منطقية لجهة الوضعية العقلية، لكن تبقى مسألة العلاقة بين العقيدة والأيديولوجيا هي مسألة جدلية خلافية يكاد يتفق الجميع فيها على وجود هذه العلاقة، ويختلفون على طبيعة هذه العلاقة، واتجاهاتها والأثر والتأثير فيها، والسبب في ذلك كما قلنا نحيله إلى طبيعة تلك المفاهيم، فإذا ما أردنا وضع تلك المفاهيم ضمن مقاسات مراحل تطور الوعي المعرفي البشري سوسيولوجياً بدءاً من المرحلة اللاهوتية مروراً بالمرحلة الميتافيزيقية وصولاً إلى الوضعية العقلية، نجد أنها كانت حاضرة وبقوة سواءً على مستوى العقيدة البشرية المتلازمة مع الميل الفطري للإنسان في التأمل والتفكر ومعرفة السبب والمسبب في الوجود على المستوى الذاتي للفرد والكون المحيط به، وعلى مستوى المكتسبات الفكرية والقيمية التي يختزنها العقل البشري بعمليات التنشئة التي يمر بها الإنسان. وبالتالي هذه الآليات وميكانيزمات العقيدة والأيديولوجيا متجسدة على مستوى الحياة البشرية من حيث الوجود، تتغير خصائصها ومضامينها بتغير الظروف والمرحلة التاريخية التي يُراد توصيف ماهيّات العقيدة والأيديولوجيا فيها.
يمكن اعتبار كلاً من (العقيدة والأيديولوجيا) من العوامل الهامة والمؤثرة جداً في تشكيل حالة الوعي القطيعي الجمعي، نظراً لارتباط الأولى بوجود الإنسان وأسبابه، وعلاقته بالكون والثانية بتجسيد سلوكيات تعكس آليات فهمه للواقع، بما يحتويه العقل البشري من أفكار وقيم ومعتقدات مكتسبة بعمليات التنشئة التي لا تتوقف، ويمر بها الإنسان طوال مراحل حياته.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن العمليات الأولى لتشكل أيديولوجيا ثقافية سياسية اجتماعية اقتصادية…إلخ مُدخلها الأولي تنشئة، ومخرجها النهائي سلوك، وما يقبع بين هذا المُدخل والمُخرج هي ملامح لمعتقد أيديولوجي مهما كان نوعه، لذلك من الطبيعي أن تحمل هذه المعتقدات خصائص التنشئة المرتبطة بالتغير وتلازمها بالوجود، وبالتالي هذا التغير الدائم لا يمكن إلا أن تتصف به عمليات تشكل المعتقد الأيديولوجي لدى الفرد بدايةً، وصولاً إلى حالة قطيعية ممتدة، وقد يدحض الأفكار التي بدأت تشير إلى تراجع تأثير الأيديولوجيات على المستوى العالمي، خصوصاً على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
كلّ هذا يمكن أن يجسد حالة التمثل الأيديولوجي للفيلسوف الألماني فريدريك هيغل بتكوين المعتقدات الأيديولوجية، بحسب مقتضيات المرحلة التي يعيشها الإنسان، فكل مرحلة في التاريخ لها عقلها وروحها، فلا يمكن لإنسان بروح وعقل العصر الحالي أن يحاكم روح وعقل العصر السابق، أو إعادة إنتاجه، ولا حتى التنبؤ بسيرورات العصر القادم بدون الانطلاق من عقل وروح العصر الحالي، فكل مجتمع له عقله الخاص به، وروح عصره التي يعيش بها.
وإذا ما كنا نقديين في الطرح، وأسقطنا الطابع النقدي الذي لا يمكن أن يقبل المسلمات بظاهرها دون فهم بواطنها، يمكن أن نقترب هنا من ثنائية الظاهر والباطن، والتي أسهب سيغموند فرويد في تجسيدها على مناحي الحياة كافة، وتحدث بها كارل ماركس كثيراً، ويمكن القول أنها قد تنطبق عل طبيعة المعتقد الأيديولوجي بتصنيفه السلبي، كون أن الأيديولوجيا لها تصنيفات عدة فالنقديين غالياً ما رأوا المعتقد الأيديولوجي بوجهته السلبية على أنه قناع زائف يخفي أشياءً وراءه ولا يعكس الحقيقة، وبالتالي قد يكون مضللاً في حالات الانتشار القطيعي الجمعي، وهذا يندرج تحت إطار المعتقد الأيديولوجي السلبي الذي يسعى لنشر معرفة زائفة للوصول إلى أهداف خفية معين.
هذا الطرح النقدي يمكن أن يشعرنا بخطورة (المعتقد الأيديولوجي السياسي -الديني) الذي يستغل مسألة في غاية الحساسية بالنسبة للإنسان والمجتمع، ويلبس عباءة دينية ظاهرياً للوصول والتمكن من تحقيق أهداف بعيدة كل البعد عن الدين باطنياً، مستغلين طبيعة الإنسان الذي يعيش ضمن مسافة فكرية – سلوكية بين متضادان متكاملان (العقل والقلب) يحكمان عملياته الحيوية مجتمعياً بما يمتلكه من مخزونات فكرية وإدراكات وأحاسيس وعواطف لها دور كبير في تشكيل بعض الإدراكات العقلية، وما ينتج عنها من سلوكيات بشرية جمعية، وهذا ما جسده كارل ماركس في نقده للأيديولوجيا السلبية التي غالباً ما تنحو باتجاه غريزي نحو القوة والبقاء، ويكون فيها الإنسان عبارة عن جسد له عقل، وليس عقل له جسد. وهنا يمكن أن نلمس الفرق بين مفهومي (العقيدة والمعتقد الأيديولوجي) فالأول يحمل ما يحمله من قداسة وجودية متوارثة ومطلقة، أما الثاني فهو مرتبط بحقيقة نسبية قابلة للتغير بظروف مرحلية خاصة، فالخروج عن عقيدة ليس كما الخروج عن معتقد أو مذهب أو تيار ضمن هذه العقيدة.
هذه الطبيعة المتغيرة للمعتقد الأيديولوجي لا تعني السلبية المطلقة في أدبيات السياسة وعلم الاجتماع السياسي وتصنيفاتهما للأيديولوجيا، فكما حمل المعتقد الأيديولوجي بطبيعته المتغيرة صفة السلبية قد يحمل بمرونته صفة الإيجابية كفكر على مستويات الأيديولوجيا كافة، وهذا ما أشار إليه الرفيق الأمين العام خلال حديثه في افتتاح اجتماع اللجنة المركزية الموسعة صباح السبت 4 أيار 2024م في طرحه لواقعية النموذج الصيني الشيوعي التي أكدت مرونة المعتقد الأيديولوجي، وقابليته ليكون إيجابياً من خلال ابتكاره لتيار أيديولوجي اقتصادي خاص بظروفه وبمقتضيات الاقتصاد العالمي يسمى اقتصاد السوق الاشتراكي، وبالتالي فإن الإنسان قادر على تطويع الأيديولوجيا بما يتناسب مع ظروفه ومقتضياته المرحلية التي هي العامل الحاسم في تحديد نوعية المعتقد الأيديولوجي، وهذه المرونة هي التي تعطي للأيديولوجيا أهمية كبيرة ويؤكد عدم تراجعها، لأن المعتقد الأيديولوجي يمكن أن يوجه البراغماتية إلى مناحٍ إيجابية تخدم العقيدة والجماهير بذات الوقت، وهذا ينسحب على المستويات الأيديولوجية كافة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، بل ويمكن أن يكون ضرورة لإحداث التغيير الإيجابي النوعي في العقل الجمعي للمجتمع كلّ ذلك خدمةً للعقيدة التي هي الراسخ الثابت، والتي يجب أن تكون الأيديولوجيا هي الدعامة الرئيسية لها.