208 أيام من حرب الإبادة الجماعية بدعم من الغرب
هيفاء علي
في هذه الأوقات، بينما يصل إجرامها إلى آفاق جديدة، تشعر طبقة الإعلام السياسي الغربي بقلق متزايد بشأن رؤية شريحة الشباب الذين تصفهم بالمتطرّفين وينقلبون ضدّ حكومتهم بسبب بثّ المعلومات والأفكار في احتجاجات الحرم الجامعي وعلى تطبيق “تيك توك”.
عندما يرى العالم بأسره “إسرائيل” ترفض وقف إطلاق النار وتبدأ عدوانها على رفح آخر “منطقة آمنة” في غزة، يتعيّن على الجميع أن يتطرّفوا في موقفهم.
فالمساحات السكنية بأكملها تنفجر، بينما أطلق المجرم بنيامين نتنياهو العنان للجحيم على رفح في معارضة مباشرة لبايدن، فعندما يرى العالم أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي يدعمون هذا العدوان المروّع من خلال التهديد العلني للمحكمة الجنائية الدولية إذا تجرأت على توجيه الاتهام إلى سلطات الكيان الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب، لا بد أن يصبح متطرّفاً.
وعندما يرى العالم صحيفة نيويورك تايمز تحصل على جائزة بوليتزر لتغطيتها التي فقدت صدقيتها بشكل فاضح، وتحيّزت للمعتدي والغازي، وتعرّضت للسخرية على نطاق واسع، يجب أن تدفع إلى التطرّف. وعندما يرى العالم الرئيس الأمريكي يدعم علناً ويشجّع القمع العنيف الذي تمارسه الشرطة ضد المتظاهرين الذين يعارضون جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها قوات الاحتلال في غزة، فيجب أن يدفع ذلك إلى التطرّف.
وإذا كان ما يسمّى الموقف “المعتدل” للوضع السياسي الراهن في الدول الغربية عموماً هو قبول وتطبيع ودعم والدفاع عن نوع الضرر الذي يلحق بشعب غزة، فعلى الشارع الغربي أن يتحرّك بعيداً عن هذا الموقف المعتدل قدر الإمكان، والسعي إلى تدمير هذا الوضع السياسي الراهن بالكامل.
من حق أي متابع لما يجري في غزة وفي فلسطين المحتلة عموماً أن يتساءل: ليس من الغريب أن قوات الشرطة الأمريكية والفرنسية والمسؤولين المحليين يعتبرون أن من واجبهم منع نشر الآراء السياسية التي لا تعجبهم؟.
فبعد أن أغلقت الشرطة بعنف الاحتجاجات المناهضة للإبادة الجماعية في حرم جامعات نيويورك، قال عمدة نيويورك إريك آدامز: “هناك حركة لتطرّف الشباب، ولن أنتظر حتى تنتهي، لن أذهب للسماح بحدوث ذلك كعمدة لمدينة نيويورك”.
من جهته قال كاز داتري، نائب مفوض العمليات في شرطة نيويورك، للصحفيين: إن هناك “منظمة” تعمل على “تطرّف طلابنا” وإن شرطة نيويورك تعتزم “معرفة هويتها”. مرة أخرى، المعنى الضمني هو أن مهمة الشرطة هي السيطرة على نشر الآراء السياسية غير المصرح بها. في مقال بعنوان “الاحتجاجات المناهضة “لإسرائيل” مخترقة من محرّضين خارجيين يقومون بتطرّف الطلاب وزرع العنف”، قدّمت صحيفة واشنطن تايمز هذه الادّعاءات غير المثبتة من المسؤولين في مدينة نيويورك على أنها حقائق ثابتة ومؤكدة، كما أخبر السيناتور ميت رومني وزير الخارجية أنتوني بلينكن أن الكونغرس يدعم حظر “تيك توك” لأنه يشارك معلومات تقلب آراء الناس ضد “إسرائيل”، مشيراً إلى أن مثل هذه المعلومات لها “تأثير محفّز للغاية على السرد”.
وفقدت صحيفة وول ستريت جورنال عقلها بشأن احتجاجات الحرم الجامعي، ونشرت مقالاتٍ بعناوين مثل “مجموعات الناشطين دربت الطلاب لعدة أشهر قبل احتجاجات الحرم الجامعي” و”قواعد المتطرّفين في الحرم الجامعي، 2024″ ويكشف الموقع الإلكتروني عن التخطيط والاستراتيجية وراء الاضطرابات الحالية في الجامعات، ما يشير إلى أن هناك شيئاً شريراً وغير مقبول في تلقي هذه الاحتجاجات الدعم من “النشطاء القدامى والجماعات اليسارية”، حسب الصحيفة.
وقد زعم قادة الإمبراطورية ودعاة الدعاية أن الحكومات الأجنبية تقف وراء هذه الحركة الاحتجاجية الجديدة التي تهدف إلى تطرّف الشباب ضد واشنطن و”إسرائيل”، وزاد خبراء الدعاية الإمبراطوريون من نقاط الحديث حول التطرف والدعم الشنيع لأن هذا هو هراوة السرد التي يخططون لاستخدامها لخنق الحركة الناشئة المناهضة للحرب التي تدعمها الإمبراطورية، كما تدعم فظائع الإبادة الجماعية في قطاع غزة. فإذا تمكّنوا من إظهار أن مهمّة الحكومة تتلخّص في خنق المعارضة السياسية ومنع نشر الآراء السياسية غير المصرّح بها، فبوسعهم عندئذ أن يبرروا القيام بأي شيء تقريباً لوقف هذه الحركة في زخمها. لذلك، وحسب مراقبين، يجب على الشباب تنمية مواقف سياسية راديكالية رداً على الإبادة الجماعية التي تدعمها حكوماتهم، وينبغي تشكيل حركة مناهضة للحرب ضد الآلة الإجرامية الإمبريالية، التي يستمرّ جنونها القاتل في النمو.
يجب على العالم أن يرفض بقوة الوضع السياسي الراهن الذي سمح بإطلاق العنان لهذا الإجرام بحق الإنسانية، وبالتالي، يجب على الجميع أن ينقلبوا ضد الإمبراطورية المركزية في الولايات المتحدة اليوم.
في سياق متصل، قدّمت الكاتبة والناشطة الفرنسية-السورية أيسر ميداني تقييمها لعملية طوفان الأقصى وتداعياتها على الهيمنة الإمبراطورية العالمية المتعثرة، مشيرة إلى أنه على الرغم من وحشية القتلة التي لا توصف، والتي يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، وأساليبه الموروثة من آلة الإبادة النازية والحروب الاستعمارية الغربية، فإن المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية لا تزال صامدة، ولم يتم تحقيق أي من أهداف العدوان الوحشي الذي روّجت له الزمرة الفاشية والعنصرية الموجودة في السلطة في تل أبيب. ولم يتمّ إطلاق سراح أي أسير حرب إسرائيلي لدى المقاومة بالقوة، بينما تواصل المقاومة قيادة حرب عصابات قاتلة ضد الغزاة، على الرغم من الخسائر البشرية والمدنية الفادحة.
إن ما يسمّى العالم المتحضّر يرى المقابر الجماعية، والمذابح الجماعية للمدنيين الفلسطينيين أمام كاميرات التلفزيون، أكثر من 34 ألف شهيد، و77 ألف جريح، 70% منهم أطفال ونساء، وعشرات الآلاف من الجثث مدفونة تحت الأنقاض، دون أن يرفّ لهذا العالم جفن. والأسوأ من ذلك أنه يواصل حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في دولة مستقلة، كما حدث في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث استخدمت الولايات المتحدة بشكل تعسّفي حق النقض ضد مشروع قرار للجمعية العامة قدّمته الجزائر، كما تطرّقت ميداني إلى حركة التضامن غير المسبوقة بين الطلاب في الولايات المتحدة وفرنسا ودول أوروبية أخرى مع القضية الفلسطينية. وأمام هذا الوعي الصحي لدى الشباب، لجأت الدول الغربية إلى القمع والاعتقالات، ففي فرنسا، تلاحق الشرطة والمحاكم نشطاء القضية الفلسطينية الذين لا يتردّدون في استدعاء النقابيين والبرلمانيين للاستجواب، أو حتى إصدار الأحكام عليهم، بتهمة “الاعتذار عن الإرهاب”.
ولفتت إلى أن هذه الأساليب تذكّر بالسنوات المظلمة من زمن الحرب الجزائرية عندما تمّت ملاحقة المثقفين والناشطين المناهضين للاستعمار، ومن ثم أدلت بدلوها حول الرد الإيراني الكبير بمئات الطائرات دون طيار والصواريخ التي سقطت على قواعد عسكرية إسرائيلية، لافتةً إلى أنه من خلال ردها على العدوان الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق، لم تطبّق إيران إلا المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تمنحها حق الدفاع عن النفس ضد أي عمل عدواني. ولكن أبعد من هذا الجانب، ترى ميداني أن الرد الإيراني على اللصوصية الإسرائيلية يدشّن مرحلة جديدة في الصراع العربي-الإسرائيلي تتسم بنهاية “الصبر الاستراتيجي” الذي ظلت إيران وسورية حتى الآن تلتزمان به.