دراساتصحيفة البعث

  بوتين القارئ الحقيقي لتاريخ روسيا القديم والحديث والمعاصر

ريا خوري 

في حفل مهيب أدّى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليمين الدستورية لولاية خامسة من ست سنوات، ستكون مهمة وحاسمة في تاريخ جمهورية روسيا الاتحادية الحديث، وفي التوازنات الدولية وإعادة تشكيل العالم من جديد بشكلٍ تدريجي بفعل التشابكات والأزمات القائمة بين القوى الدولية الفاعلة على الصعيد الدولي. فقد اتسم الحفل المهيب بالانضباط والفخامة والأبَّهة في قصر الكرملين، ما يشير إلى حالة القوة والمنعة والثبات في السياسة الروسية، وخاصة عندما أكَّد أنَّ الحوار مع الغرب الأمريكي ـ الأوروبي ممكن فقط في حال ما أطلق عليه: (احترام المصالح والمساواة وضمان الأمن للجميع)، وذلك في ظل الحرب المستعرة في أوكرانيا، كما أكَّد الرئيس بوتين في كلمة له في أثناء مراسم تنصيبه في قصر الكرملين عقب إعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية التي جرت في شهر آذار الماضي، أن روسيا ستمر بفترة مهمة ومفصلية، وأن قيادة جمهورية روسيا الاتحادية  (واجب مقدس)، مشيراً بوضوح إلى أنَّ القضية الأمنية هي هدفه الأعلى، وأنَّ روسيا الاتحادية تواصل العمل الجاد مع الشركاء المعنيين لتشكيل نظام عالمي متعدِّد الأقطاب.

لقد كانت بداية الولاية الجديدة للرئيس بوتين، مختلفة عن العهود السابقة التي تولاها للمرة الأولى عشية الألفية الثالثة بساعات إثر استقالة بوريس يلتسين الرئيس الأسبق المفاجئة يوم 31 كانون الأول عام 1999. ومنذ ذلك التاريخ تمكّن بوتين القادم من جهاز الاستخبارات السوفييتية (كي جي بي) أن يكون صاحب القرار في روسيا الاتحادية، وأصبحت له الكلمة الفصل في كل الملفات الاستراتيجية المهمة، حتى عندما كان رئيساً للوزراء بين عامي 2008 و2012 تحت رئاسة ديمتري ميدفيديف.

في حقيقة الأمر، الرئيس بوتين القارئ الحقيقي لتاريخ روسيا القديم والحديث والمعاصر، قد استلهم من رموز التاريخ الروسي كل ما يرسّخ القوّة والعظمة والسطوة والهيبة، حتى إنَّ الشعب الروسي قد شبّهه بقيصر روسيا الخامس بطرس الأكبر، ويعتقد اعتقاداً راسخاً أنه قادر على استعادة روح ذلك المجد التليد، وفرض روسيا الاتحادية قوة عالمية يحسب لها كل العالم، وخاصة الخصوم، ألف حساب.

يبدأ الرئيس بوتين ولايته الخامسة، وهو أقوى من أي وقت مضى، متعهّداً أمام الجميع بالنصر في الحرب الساخنة الدائرة في أوكرانيا، وفي مواجهة التحالف الغربي الأمريكي ـ الأوروبي الساعي إلى إخضاع روسيا وقمعها ومنعها عن تحقيق أهدافها الاستراتيجية الحيوية في عالم متعدَّد الأقطاب. وفي خطاب القسم، أكَّد الرئيس بوتين مجدَّداً أنَّ جمهورية روسيا الاتحادية ستخرج (أقوى من مرحلة صعبة)، وأن قيادة روسيا الاتحادية شرفٌ عظيم، ومسؤولية وواجب مقدس لا يمكن التنازل عنه، وهذه الجملة المهمة وحدها التي كان لها تأثير كبير في الشعب الروسي وحلفائه وهي كافية لتختزل رؤية واسعة من الطموحات والأهداف الروسية لفرض سلطة جيوسياسية في عالم، تبيّن بالتجربة العملية، أنّه لا ينصاع للتغيير إلا بالتصميم والإرادة والقوة والكفاءة العالية في الدفاع عن المصالح الوطنية والقومية الروسية.

من جهتها أبدت الدول الغربية قلقها من قوة روسيا ومنعتها، فقد تابعت كل أجهزتها وقنواتها الدبلوماسية والأمنية خطاب الرئيس بوتين، في محاولة منها لتحليل خلفياته وأبعاده، كما قاطع ممثلو تلك الدول حفل أداء اليمين الرئاسي في قصر الكرملين.

فقد تناولت وسائل الإعلام الغربية عقب تنصيب الرئيس بوتين معلوماتٍ حول ما أعلنته وزارة الدفاع الروسية أنَّها أمرت بإجراء مناورات نووية نوعية رداً على ما سمّته (تهديدات واستفزازات) الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا، حيث أعلنت هيئة الأركان العامة في البيان الذي أصدرته وزارة الدفاع أنَّ روسيا بدأت الاستعدادات لإجراء تدريبات خاصة ونوعية على استخدام أسلحة نووية تكتيكية في أقرب وقت مع التشكيلات الصاروخية الخاصة للمنطقة العسكرية الجنوبية القريبة من الأراضي الأوكرانية بمشاركة القوات الجوية والقوات البحرية. لقد كان ردّ الفعل من الولايات المتحدة الأمريكية الصادر من وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) هو انتقاد عزم روسيا الاتحادية إجراء مناورات نووية على الحدود مع أوكرانيا، واعتبرت تلك المناورات (خطاباً بعيداً عن المسؤولية).

يبدو أنَّ خطاب الرئيس بوتين وما قامت به وزارة الدفاع الروسية من إجراءات قد أوضحا بجلاء مستقبل العلاقة مع القوى الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية التي لن تكون هادئة وستكون مفتوحة على مآلات خطِرة. وبينما لم يغلق باب الحوار نهائياً مع الغرب حول الاستقرار الاستراتيجي، قال بوتين بوضوح تام: إنَّ (الخيار متروك لهم بشأن ما إذا كانوا يعتزمون مواصلة محاولات ردع تنمية روسيا الاتحادية والسياسات العدوانية والضغوط الكبيرة المستمرة منذ عدّة سنوات أو البحث عن سبيل نحو التعاون والسلام والأمن)، ومما لا شك فيه أنَّ مثل هذه النبرة المتحدّية تجد صداها الكبير في العديد من عواصم العالم التي تتشارك مع جمهورية روسيا الاتحادية التبرّم من الهيمنة الغربية التي أفلست سياسياً وأخلاقياً واقتصادياً لفشلها الذريع في معالجة الصراعات والأزمات العالمية، واعتمادها نظرة متفرّدة أحادية لا ترى في العالم كله غير أهدافها ومصالحها الخاصة الضيّقة على حساب الأمم والشعوب المستضعفة في الأرض.

الرئيس بوتين بدأ ولايته الخامسة، بقوة وثبات ليكون أطول أسياد قصر الكرملين خدمة منذ الزعيم السوفييتي الراحل جوزيف ستالين، وبموجب تعديل الدستور الأخير، هو مؤهّل لولاية سادسة حتى عام 2036م، وهذه فترة مناسبة جداً لإعادة بناء روسيا القوية وإطلاقها دولة عظمى في العالم كما فعل سلفه بطرس الأكبر قبل ثلاثة قرون، وهو بذلك يدشّن مرحلة جديدة من تاريخ روسيا المعاصر.