مسارات إنتاج وبيع النفط هذا العام
ريا خوري
ما زالت أسعار النفط في العالم ترتفع مع تقلّص مخزونات النفط الخام الأميركية، والآمال المعقودة على خفض الفائدة تنتظر القادم من الأيام، وذلك لتراجع مخزونات الخام في هذا الشهر التي وصلت إلى 1.4 مليون برميل.
إنَّ ارتفاع أسعار النفط في التعاملات المبكّرة، منذ بداية شهر أيّار الجاري، كان بفضل تقلّص مخزونات الخام الأميركية الذي أشار بوضوح تام إلى تراجع المعروض، ووسط تزايد الآمال بأنَّ مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأميركي) سيخفض أسعار الفائدة بحلول نهاية العام الجاري 2024م، وخاصة أنَّ مجلس الاحتياطي الاتحادي هو المكلّف الإشراف على المصارف الاحتياطية الفيدرالية الاثني عشر في الولايات المتحدة الأمريكية.
إنَّ ما يشهده العالم من تراجع أسعار العقود الآجلة للنفط تراجعاً كبيراً الأسبوع الماضي في آسيا، كان بعد أن أعلنت المملكة العربية السعودية رفع أسعار النفط بمختلف أنواعها في آسيا للشهر الثالث على التوالي، وهو ما يشير إلى فقدان الثقة في قرار تجمّع (أوبك+) (أوبك بلس) بشأن خفض إنتاج النفط لتحسين أسعاره في الأسواق، وخاصة بعد الانخفاض الكبير في الأسعار بسبب الزيادات الكبيرة في إنتاج النفط الصخري بالولايات المتحدة الأمريكية عام 2011، فقد أُنشأت “أوبك بلس” يوم 30 تشرين الثاني 2016، ووقعت اتفاقاً مع 10 دول منتجة للنفط غير الأعضاء الأساسيين، أبرزها جمهورية روسيا الاتحادية، ثالث أكبر منتج للنفط في العالم، حيث أعلنت المنظمة هدفها وهو (تنسيق وتوحيد السياسات النفطية بين الدول الأعضاء) لتأمين عملية التسعير للمنتجين، واستمرار الإمدادات للمستهلكين، والعائد على رأس المال للمستثمرين. فقد أكَّدت وكالة بلومبرغ للأنباء أن خام برنت القياسي للنفط العالمي اقترب من أربعة وثمانين دولاراً للبرميل، بعد تراجعه بأكثر من 7% الشهر الماضي، ليسجّل أكبر تراجع خلال أسبوع واحد منذ شهر شباط الماضي، كما اقترب سعر خام غرب تكساس الوسيط، وهو الخام القياسي للنفط الأمريكي، من نحو ثمانين دولاراً للبرميل.
من جهتها، أعلنت شركة النفط أرامكو السعودية العملاقة زيادة أسعارها الرسمية لبيع الخام العربي الخفيف الرئيسي لديها في آسيا خلال شهر حزيران المقبل بمقدار تسعين سنتاً إلى 2.90 دولار فوق الأسعار القياسية للبرميل. وكان المحللون الاقتصاديون والخبراء المتخصصون الذين استطلعت بلومبرغ آراءهم يتوقعون زيادة السعر بمقدار ستين سنتاً فقط للبرميل.
الجدير بالذكر أنّه في هذا العام اجتازت صناعة النفط العالمية حالة معقدة تشكّلت بسبب عدم الاستقرار الجيوسياسي في العالم، وبسبب التحوّلات الاقتصادية العالمية المتسارعة، والوتيرة الزائدة للتحول إلى الطاقة النظيفة أو الطاقة الخضراء، إضافة إلى تقلبات كبيرة، مدفوعة بأسعار النفط بالدرجة الأولى بالتوترات الجيوسياسية المستمرة والمتفاقمة في العالم بشكلٍ عام ومنطقة الشرق الأوسط واضطرابات سلسلة التوريد بسبب الحرب في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. ومن الجدير بالذكر أن الصراع الساخن في أوروبا الشرقية والحرب الروسية الأوكرانية ما زالا مستمرين في التصعيد المتزايد، وهذا أدّى إلى تقلبات في الأسواق العالمية وتعطيل خطوط الإمداد. وعلى النسق نفسه، أدّت التوترات وسخونة الأوضاع في الشرق الأوسط إلى إبقاء أسواق النفط في حالة قلق وتوتُّر.
لقد استمرّت مجموعة (أوبك+) بلعب الدور المحوري والأساسي في تشكيل ديناميكيات تداول النفط في الأسواق العالمية من خلال تخفيضات الإنتاج الاستراتيجية التي هدفت وتهدف إلى استقرار الأسعار. تلك الإجراءات أدَّت إلى ارتفاع مفاجئ في الأسعار وهو أمر لم يكن متوقعاً، ما أدّى إلى زيادة التعقيد في الإجراءات وصعوبة تخطيط الميزانيات المالية للدول المستهلكة والشركات العاملة في تلك الاقتصادات.
ولا يخفى على أحد أنَّ الطلب العالمي على النفط قد شهد تحوّلاً نوعياً لأن الاقتصادات العالمية الكبرى تسير وفق مسارات مختلفة نحو التعافي بعد جائحة كوفيد 19 (كورونا)، في حين أظهرت جمهورية الصين الشعبية والهند طلباً كبيراً امتاز بالقوة بسبب التحضّر والتصنيع السريع، فإن اقتصادات الدول الغربية شهدت ولا تزال تشهد وتيرة نمو أبطأ من ذي قبل في استهلاك النفط، متأثرةً بشكلٍ كبير بتراجع النمو الاقتصادي فيها مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، وتأثرت بدرجة أقل بزيادة كفاءة استخدام الطاقة من نفط وغاز، والتحوّل نحو بناء منظومة مصادر الطاقة المتجدّدة.
إضافةً إلى ما سبق، وضع الخطط والبرامج التي وضعها أصحاب المصلحة يدفع الشركات الكبرى إلى تبني معايير أعلى للشفافية في عملياتها، والمسؤولية البيئية وحماية المناخ.
من جهةٍ أخرى، اتجاهات الاستثمار الرأسمالي العالمي في صناعة النفط ومشتقاته تعكس في عام 2024 نهجاً فيه الكثير من الحيطة والحذر، ولكن يبقى ضمن النهج الاستراتيجي لتلك الدول. وفي حين تسعى العديد من الشركات إلى تعزيز عملياتها الاقتصادية وزيادة أنشطتها الأولية للاستفادة من الأسعار المرتفعة في هذه الفترة، تعمل تلك الشركات بكل إمكانياتها على أخذ الحيطة والحذر من خلال الاستثمار في الطاقة المتجدّدة وتحديداً في مجال الطاقة الشمسية والمراوح الضخمة المعتمدة على الرياح. كل ذلك يترافق مع الاستهلاك الكبير للنفط ومشتقاته في مجال النقل في جميع دول العالم.
أمَّا بالنسبة لاقتصادات الدول التي تعتمد على صادرات النفط ومشتقاته، فإنَّ الظروف التي تمر بها الأسواق الحالية تمثل تحدياتٍ كبيرة. وتستفيد دول مثل المملكة العربية السعودية وجمهورية روسيا الاتحادية ونيجيريا من ارتفاع أسعار النفط العالمية، ولكنها تواجه أيضاً العديد من المشكلات الملحّة في حاجتها الماسّة إلى تنويع اقتصاداتها مع تطوّر تقنيات استخراج وإنتاج الطاقة العالمي. لذا لجأت كبريات الشركات المنتجة للسيارات إلى إنتاج السيارات الكهربائية (تسلا)، وفي هذا السياق بدأ العديد من الخبراء الاقتصاديين بالإقرار بأنَّ التوجّه لصناعة السيارات الكهربائية سيساهم في التخفيف من مشكلات الحصول على النفط والتخلص من الأسعار الكبيرة التي يدفعونها، ويمكن أن تحل محل الطلب على النفط بشكل كبير بحلول نهاية العشر سنوات القادمة، وخاصة في الدول المتقدمة. لكن لا يجب إغفال أن الكهرباء الناتجة في معظمها من محطات تستخدم الوقود أو النفط ومشتقاته لإنتاج الطاقة الكهربائية المستخدمة في شحن السيارات الكهربائية، وخاصة أن هذا العام قد تميَّز بابتكار تقنيات جديدة تساهم في تنشيط الطاقة المتجدّدة، التي أصبحت قادرة على أن تنافس الوقود الأحفوري، فقد سعت العديد من الحكومات إلى التوسّع في عمليات استخدام الطاقة النظيفة في مختلف أنحاء العالم، وخاصة في دول الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الآسيوية.
في نهاية الأمر، نجد أنَّ سعر برميل النفط الذي وصل إلى اثنين وثمانين دولاراً للبرميل الواحد ما زال في حالة عدم استقرار نتيجة تصاعد الصراعات الدولية وعلى وجه الخصوص ما يجري في أوكرانيا وفي منطقتنا العربية.