عقائدية “البعث” بين الثقافة والسياسة… خطاب الرفيق الأمين العام موجهاً
د. عدنان محمد أحمد
يشكّل الحديث المرتجل للرفيق الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، الدكتور بشار الأسد، في افتتاح اجتماع اللجنة المركزية الموسّع للحزب، في الـ4 من أيار الجاري، منهج عمل متكاملاً للمرحلة المقبلة، وعلى القيادة المركزية الجديدة أن تستند إليه في صياغة رؤية واضحة توجه في ضوئها السلطة التنفيذية لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتحويل تلك الرؤية إلى خطط عمل، وفق جداول زمنية محدّدة تتيح معرفة مواضع الخلل في التنفيذ – في حال وجوده – وأسباب ذلك الخلل لمعالجته بسرعة، بغية تحقيق كل ما يمكن تحقيقه، ما يسهم في بناء مستقبل أفضل للوطن وأبنائه.
وتضمّن حديث الرفيق الأمين العام للحزب طائفة من الأفكار المهمة يستوجب كل منها وقفة متأنية، ويستدعي حواراً جاداً بغية استثماره على النحو الأفضل في المرحلة القادمة؛ غير أنني أحبّ، ها هنا، أن أقف وقفة سريعة على فكرة شديدة الارتباط بالمجال الثقافي، لأنها تتعلق بالانتماء؛ والانتماء حالة وعي بالذات وبالعالم تشكّل الثقافة لحمتها وسداها؛ فقد ذكر الرفيق الأسد أن “حزبنا حزب عقائدي، وعقائديته هي المشكلة الأكبر التي تجابه أعداءنا، وهي تحمي المجتمع والدولة والوطن..”؛ والعقائدية حالة وعي تشكلها أنساق ثقافية مختلفة، وتقوّيها المؤسسات الثقافية وفق المعايير التي ترى أنها تؤدي إلى ذلك.. وإذا كانت عقائدية حزبنا المشكلة الأكبر التي تجابه أعداءنا وتحمينا وتحمي الوطن – وهي كذلك بالفعل – فيجب أن يكون الاهتمام بهذه العقائدية من أولويات القيادة المركزية الجديدة، ولا سيما أن الحرب الإعلامية التي شنّها أعداء سورية عليها، بالتوازي مع الحرب العسكرية، ركّزت على ضرب مفهوم القوميّة العربية، وعلى زعزعة الثقة بحزب البعث بوصفه حزباً قومياً “لم يعد صالحاً للزمن الحاضر” الذي تجاوزت فيه النظريات السياسية المعاصرة قضايا القوميات والانتماءات إليها، وأسهم في دعم تلك الحرب الإعلامية مواقف بعض الدول خلال الحرب على سورية، حتى لقد بدا التساؤل عن أهمية الانتماء القومي العربي منطقياً ومشروعاً.
وقد استطاعت تلك الحرب الإعلامية أن تشيع أن القومية العربية “فكرة سياسية أوجدها مؤسسو حزب البعث متجاهلين القوميات الأخرى التي تعيش على الأرض السورية أو على أراضي الدول العربية الأخرى”.
والعمل على مواجهة هذه الحرب الإعلامية المستمرة ودحض افتراءاتها من بعض مهام القيادة المركزية الجديدة، وهو جزء لا يتجزأ من التحدّي الثالث الذي أشار إليه الأمين العام بقوله “أما التحدي الثالث بالنسبة لنا كحزب فهو إعادة صياغة فكر الحزب بالشكل الذي يتماشى مع عصرنا، شرط ألّا يخالف انتماءنا بالشكل الذي يتفاعل مع حاضرنا ولا يسلخنا عن جذورنا، وحزبنا كحزب قومي عربي لا ينطلق من نظرية يضعها مثقفون أو مفكرون جلسوا منذ عام .. وقرروا أن يكون هناك هوية اسمها العروبة. نحن ننطلق من انتماء اجتماعي حقيقي تاريخي وواقعي، أما النظرية فتأتي لاحقاً لتؤطّر هذا الانتماء وتعطيه شكلاً فكرياً ينقل هذا الانتماء من الحالة الغرائزية إلى الحالة الإيجابية الفاعلة التي تعزّز وحدة المجتمع وتقويه، وتنقل حالة الانتماء هذه من حالة العصبية الجاهلية الضيقة الأفق إلى حالة شاملة واسعة تجمع كل مكونات المجتمع عبر رفع الانتماء فوق المستوى العرقي إلى المستوى الحضاري الإنساني..”.
وهذا التحدي الذي أشار إليه الرفيق الأسد يستوجب بناء خطة عمل ثقافي تثبت بالدليل التاريخي حقيقة انتمائنا العروبي، وهذا يستوجب إعادة النظر فيما علمتنا إياه المؤسسات الاستشراقية، لغايات غير علمية، فأسدلت ستاراً من الغموض على تاريخنا العربي، ولم تفلح جهود بعض الدارسين العرب والمستشرقين المخلصين للحقيقة في إعادة الحقّ إلى نصابه، بل ضاعت أصواتهم في ضجيج الصارخين بما تعلموه من تلك المؤسسات من أن “سكان منطقتنا العربية كانوا شعوباً شتّى لهم انتماءات قومية مختلفة ولغات متنوعة، وأن العرب لم يكونوا سوى قوم من تلك الأقوام”، بل كانوا “أقلها شأناً وأضعفها ذكراً قبل مجيء الإسلام الذي انتصروا تحت رايته في الفتوحات فسيطروا على ما لم يكن لهم من بلدان، وحكموا من لم يكن يخضع لهم من شعوب”.. وهذه مغالطة بات من الضروري دحضها بعمل ثقافي جادّ.
وحتى لا أتّهم بالتحيّز، وأنا أقول، إنها مغالطة، سأكتفي بذكر ما قاله مستشرق منصف؛ هو بيير روسي في كتابه “مدينة إيزيس، التاريخ الحقيقي للعرب”: “لقد كان كاهن بعل يتكلّم العربية، وبها كذلك يتعبّد التّقيُّ المؤمنُ بإيزيس، أو موسى المصري، وبالعربية يتكلّم من ثمّ عيسى المسيح، عندما يتحادث مع قيافا أو مع شعب فلسطين.. وإنها في الحقيقة لعبة أطفال بالنسبة لعالم لغة أن يجد في أصول اللغات المصرية والكنعانية والأناضولية أو الآشورية – البابلية العناصر الأساسية للغة العربية.. ويضع روسي بين يدي مقولته من الدلائل ما يكفي لإثباتها. وحديث روسي عن اللغات يستدعي ذكر ما يسمى “اللغات السامية”، وهي تسمية ذات مرجعية توراتية من حيث المصدر، ومرجعية استعمارية من حيث التعميم، فقد أطلقها مستشرقون يهود فقبلها الغرب، وانتقلت إلى العرب مقرونة بالإعجاب، وما زلنا نستعملها في جامعاتنا إلى اليوم، ونجادل في أي تلك اللغات أقرب إلى اللغة السامية الأم، مع أن أحداً في الكون لا يعرف تلك الأم، لأنه لا وجود لها في الأصل.
قد يُشعِر الحديث عن اللغة أننا نخوض في أمر ثقافي محض، في حين كان ينبغي لحديثنا أن يكون ذا طابع سياسي عندما نتناول ما نأمله من قيادة سياسية هي القيادة المركزية الجديدة، ولكن الحقيقة هي أن توجيه النشاط الثقافي مهمة من مهامّ أية قيادة يعوّل عليها في قيادة الدولة والمجتمع، فالحدّ الفاصل بين السياسي والثقافي حدّ وهمي عند التدقيق، بل إن نظرية الأدب الحديثة هي جزء من التاريخ السياسي والإيديولوجي لعصرنا، كما يقول تيري إنجلتون، الأستاذ المحاضر بجامعة أكسفورد؛ ولذلك فإن المأمول من القيادة المركزية الجديدة توجيه المؤسسات الثقافية للعمل على ترسيخ انتمائنا الوطني على النحو الذي يجعلنا أكثر قدرة على مواجهة أعدائنا وحماية وطننا، وتعميق انتمائنا العربي وجعله في المستوى الحضاري الإنساني الذي أشار إليه الأمين العام للحزب.