بوتين في الصين.. علاقات استراتيجية ودور قيادي في العالم الجديد
ريا خوري
شكّلت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى جمهورية الصين الشعبية استمراراً لعملية سياسية ودبلوماسية مهمة على الصعيد العالمي، فقد كانت أهميتها تتعلق بتوثيق العلاقات الدبلوماسية التاريخية بين البلدين، وخاصة في الذكرى الخامسة والسبعين لتلك العلاقة.
تلك الزيارة هي الأولى للرئيس بوتين خارج جمهورية روسيا الاتحادية منذ إعادة انتخابه في شهر آذار الماضي، والزيارة الثانية خلال ما يقارب الستة أشهر، حيث شكّلت مرحلةً جديدةً ومهمّة في علاقات جمهورية الصين الشعبية وجمهورية روسيا الاتحادية على طريق تعميق علاقات الشراكة الاستراتيجية الشاملة، وتأكيد الدور القيادي القوي للبلدين في تشكيل نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب يعمل على تحقيق العدل والسلم العالمي وتثبيت أركان الديمقراطية بكل تجلياتها.
جاءت الزيارة في ظل ظروف سياسية وعسكرية دولية ساخنة، وخاصة الحرب الساخنة في أوكرانيا، وما يجري من إبادة جماعية للشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزة على يد قوات العدوان الصهيوني المدعومة مباشرةً من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية.
الجدير بالذكر أنًّ تلك الزيارة شهدت تحقيق أوثق العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، فقد وقّع الرئيس الروسي والرئيس الصيني شي جين بينغ بياناً مشتركاً حول علاقاتهما الاستراتيجية المتينة تضمّن تحديد أسس وركائز العلاقات بين البلدين، وحزمة من الاتفاقات المشتركة بين الإدارات والمؤسسات والهيئات والشركات بهدف زيادة تعميق التعاون الثنائي بشكلٍ عملي أكثر من أي وقتٍ مضى، ومن بين تلك الاتفاقيات اتفاقية تطوير التعاون بين البلدين من منطلق الاحترام المتبادل والمنفعة المتبادلة لمصالح الشعبين وحسن الجوار.
لقد تابع العالم تلك الزيارة ومفاعيلها الدولية واستحقاقاتها، وإذا كانت المحادثات بين الرئيسين الكبيرين ركّزت على تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين في مختلف المجالات، إلّا أنَّها ركّزت أيضاً بشكل رئيسي على أهمية دورهما في دعم قيام عالم جديد متوازن متعدِّد الأقطاب يعتمد بشكل رئيسي على القانون الدولي، أي الإصرار على مواجهة التفرّد الأمريكي في قيادة النظام الدولي القائم والخارج عن الشرعية الدولية الذي لا يأخذ في الاعتبار ميثاق هيئة الأمم المتحدة الذي يحمي سيادة الدول وأمنها القومي ويحميها من العقوبات الجائرة الأحادية الجانب، ويحفظ السلم والأمن الدوليين، وهو ما أكَّده بوتين في العمل الجاد لتشكيل نظام عالمي متعدِّد الأقطاب يقوم على الدور المركزي الرئيسي لهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، والقانون الدولي، والتنوّع الحضاري والثقافي، كما أكَّد الرئيس الصيني أنَّ جمهورية الصين الشعبية وجمهورية روسيا الاتحادية تدافعان عن النظام العالمي من خلال الدور المركزي لهيئة الأمم المتحدة، وكذلك النظام العالمي القائم على القانون الدولي والشرعية الدولية.
الجدير بالذكر أنّ الصين وروسيا تخوضان صراعاً اقتصادياً ومالياً وتجارياً ضارياً ضد الولايات المتحدة الأمريكية التي تفرض عليهما عقوباتٍ جائرة قاسية، ما دفعهما إلى زيادة التعاون الاستراتيجي في مختلف المجالات لمواجهة هذه الحرب التي تشنّها الولايات المتحدة الأمريكية بتنشيط الشريان الاقتصادي والمالي والتجاري بينهما، إذ أصبحت الصين أكبر سوق للنفط والغاز الروسي، فضلاً عن كونها مصدراً رئيسياً للواردات المهمّة التي تحتاج إليها المصانع الروسية والصينية، كما أن البلدين يسعيان إلى التخلص من القيود المالية الأمريكية الصارمة من خلال التعامل بالعملة المحلية اليوان الصيني، والروبل الروسي، أو خارج النظام المالي الذي تمسك به الولايات المتحدة الأمريكية للإفلات من استخدام الولايات المتحدة الدولار الأمريكي كسلاح، وهو ما أشار إليه الرئيس الروسي بأنَّ التطوير السريع للعلاقات التجارية بين الصين وروسيا أظهر مناعةً قويةً ضدَّ التحديات والأزمات الخارجية المُفتعلة، فقد تضاعفت خلال السنوات الخمس الماضية، عملية التبادل التجاري بين البلدين، وأنَّ أكثر من 90% من المعاملات بين الشركات الضخمة بين البلدين تمت تسويتها بعملتيهما الوطنيتين اليوان الصيني والروبل الروسي.
لقد أبدى العديد من الخبراء الاستراتيجيين والمراقبين الدوليين وعدد كبير من قادة العالم رؤيتهم حول الاتفاق الذي جرى بين الزعيمين بوتين وبينغ على أنَّ العالم يمرُّ بمرحلةٍ تحوّل تاريخية جديدة يجب التقاطها والحفاظ عليها والعمل على ترسيخ واقع دولي جديد بعيداً عن كل أشكال السيطرة والهيمنة الأمريكية المطلقة التي تتعامل من منظور الحرب الباردة، وتسير وفق منطق المواجهة بين التكتلات الدولية، وتضع أمنها وأمن حلفائها فوق الأمن الاستراتيجي الإقليمي والعالمي، وهو نهج يهدِّد الأمن والاستقرار العالميين، كما هي الحال في منطقة المحيط الهادئ وآسيا، واتفاقية (أوكوس) الأمنية وهي اتفاقية ثلاثية تضم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا، إضافةً إلى تحالفات عسكرية أخرى، وصبّ الزيت على النار في أوكرانيا، ودعم عسكري ولوجيستي ومالي وسياسي غير مسبوق للكيان الصهيوني في حرب الإبادة التي تخوضها قواته المجرمة ضدّ قطاع غزة المحاصر.
الصين وروسيا ماضيان بقوة في مواجهة كل أشكال الهيمنة والسيطرة الأمريكية، وزيارة الرئيس الروسي إلى الصين جاءت لتعطي زخماً وقوةً وأملاً لنظام عالمي جديد بدأت تتضح معالمه.