دراساتصحيفة البعث

هل ما زالت أرض الأحرار؟!

عناية ناصر

يتردّد صدى شعار “من النهر إلى البحر ستتحرّر فلسطين”، الذي يجسّد التطلع إلى حرية فلسطين الممتدة من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط، لدى الطلاب المتظاهرين في جميع أنحاء الولايات المتحدة الذين يحثون على إنهاء العنف في غزة.

وعلى الرغم من أشهر من الاحتجاجات السلمية، تستمرّ حكومة الولايات المتحدة في دعمها العسكري والسياسي والمالي لـ”إسرائيل” لمواصلة الصراع، حيث أقرّت أغلبية من الحزبين الجمهوري والديمقراطي مؤخراً حزمة مساعدات عسكرية بقيمة 95 مليار دولار، بما في ذلك 15 مليار دولار من المساعدات العسكرية “الإسرائيلية”.

وفي ظل الاستياء المتزايد من سياسات الحكومة الأمريكية بشأن الصراع، عاد طلاب الجامعات في جميع أنحاء البلاد إلى تراث حركة الحقوق المدنية في الستينيات وأقاموا معسكراتٍ، مطالبين الجامعة بسحب استثماراتها من الشركات المرتبطة بـ”إسرائيل”. ومع ذلك، قوبلت احتجاجاتهم السلمية بردّ فعل قوي، حيث قامت قوات الشرطة بمداهمات للحرم الجامعي في مدينة نيويورك وأماكن أخرى، واعتقلت الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والصحفيين. وفي 30 نيسان، قامت إدارة شرطة مدينة نيويورك باعتقال أكثر من 100 متظاهر في جامعة كولومبيا، مركز المظاهرات، بعد أن قام رئيس مجلس النواب مايك جونسون بزيارة واستقبله الطلاب بترديد “فلسطين حرة”. ومع استمرار عمليات المداهمة والاعتقال، وصل عدد الأفراد الذين اعتقلتهم الشرطة من الجامعات الأمريكية منذ منتصف نيسان إلى أكثر من 2400 شخص. ووصف جونسون الطلاب بأنهم “محرّضون خارجون عن القانون” وهدّد باستدعاء الحرس الوطني خلال زيارته. ولم يساعد على الإطلاق في تهدئة التوتر، كما أن إدانة البيت الأبيض للاحتجاجات باعتبارها “معادية للسامية” لم تؤدِّ إلا إلى تفاقم الوضع. وفي عرض نادر للوحدة، يريد كل من المشرّعين الأمريكيين والسلطة التنفيذية إسكات الطلاب المحتجين، والأسباب المحتملة مثيرة للاهتمام. لقد كانت كل مطالبات الطلاب تتمثل في حماية حقوق الإنسان للفلسطينيين في غزة ومعارضة التواطؤ الأمريكي في انتهاكات حقوق الإنسان. إنهم يرفضون قبول العناوين الرسمية المعتادة التي تقول: إن الولايات المتحدة كانت تساعد “إسرائيل” فقط في حقها المشروع في الدفاع عن النفس.

إن صور المستشفيات المحاصرة، والمنازل المدمّرة، وكذلك الوجوه العاجزة للأطفال والنساء والشيوخ الذين أصيبوا أو شرّدوا، لا تكذب. إنها دليل على الكيفية التي تساعد بها “المساعدة العسكرية” الأمريكية “إسرائيل” في وحشيتها ضد الأبرياء والضعفاء. إن الشباب الذين عادوا إلى الولايات المتحدة لديهم الحق في تحدّي السلوك المشين لحكومتهم.

لقد كان موقف حكومة الولايات المتحدة من الصراع الدائر في غزة مثيراً للشك منذ البداية، وبالإضافة إلى المساعدات العسكرية المستمرة، استخدمت واشنطن حق النقض (الفيتو) ضد قرارات الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار والحصول على العضوية الكاملة لفلسطين، مع إبقاء الضوء الأخضر مفتوحاً للهجمات الإسرائيلية التي تنتهك القانون الدولي، وتتحدّى الضمير الإنساني على نحو مؤسف، حتى إن الكونغرس أقرّ قانون التوعية بمعاداة السامية، الذي تبنى تعريفاً واسعاً لمعاداة السامية ويمكن استخدامه كذريعة سهلة لقمع الانتقادات وحقوق الأمريكيين.

تماماً مثلما حدث قبل عقود مضت عندما وقف الشباب الأمريكيون ضد حرب فيتنام، فإن الطلاب اليوم يتحدّون السياسات الأمريكية التي تتعارض مع القيم الأمريكية وتديم الظلم. وبوقوفهم متحدين، أصبح صوتهم أعلى حيث يدعون حكومة الولايات المتحدة إلى مواءمة أفعالها مع مُثُلها الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويظهر مناشدتهم أن النضال من أجل العدالة لا يقتصر على غزة. ولكن الأمر المختلف الآن هو أن الولايات المتحدة أصبحت أقل تسامحاً مع الانتقادات والمعارضة. وفي ظل الوضع الحالي، فإن التعبير السلمي عن الخلاف قد يؤدّي إلى الاحتجاز عدة أيام. ويمكن أن يصبح الطلاب غير المسلحين أهدافاً لضباط الشرطة المسلحين، ويمكن وصف أي منتقد لسياسات الحكومة بمعاداة السامية.

ما الذي تخشاه الولايات المتحدة وساستها؟ هل يخشون أنه كلما اقترب عامة الناس من الحقيقة، أصبح من الصعب على الولايات المتحدة أن تخفي نيّاتها الحقيقية؟ ويطرح المسار من جامعة كولومبيا إلى عمليات الاحتجاز التي قامت بها إدارة شرطة مدينة نيويورك سؤالاً بالغ الأهمية: هل تستطيع أمريكا أن تدّعي أنها أرض الأحرار عندما تقمع الأصوات المطالبة بحقوق الإنسان؟.

إن الاحتجاجات في جامعة كولومبيا وخارجها تدور حول العدالة، وهو المثل الأعلى الذي يعتز به كل الأمريكيين. وإذا أصرّ صنّاع السياسة الأمريكيون على عدم مبالاتهم وأداروا آذانهم الصماء لمخاوف ناخبيهم، فإن الأمة سوف تفقد صدقيتها باعتبارها بطلاً مزعوماً للعدالة والحرية في أعين شعبها وكل شعوب العالم.