جرائم الاحتلال اختصاص المحكمة الجنائية الدولية
د.معن منيف سليمان
دفع ارتفاع وتيرة الجرائم الفظيعة التي يرتكبها الكيان الإسرائيلي ضد المدنيين في قطاع غزة، أعضاء الحملة العالمية للعمل على مقاضاته أمام محكمة الجنايات الدولية، بهدف ملاحقة قادته وكبار مسؤوليه ومحاكمتهم كمجرمي حرب. وذلك أن فلسطين المحتلة هي من الدول الموقعة، خلافاً للكيان الذي لم يوقّع، على النظام الأساسي لروما المتعلق بالنشاط القانوني للمحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي لا ينفي امتداد قرارات وأحكام الجنايات القضائية إلى الكيان الإسرائيلي في حال صدر حكم الإدانة في وقت لاحق، لأن المتضرّر من ممارساته وجرائمه طرف موقع على الاتفاقية الدولية، على الرغم من إنكار البيت الأبيض أن يكون من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية إصدار الأحكام بحق المسؤولين الإسرائيليين.
تشارك الأمم المتحدة في العديد من المحاكم التي أنشئت لتحقيق العدالة لضحايا الجرائم الدولية. وقد أنشأ مجلس الأمن محكمتين مخصصتين، إحداهما المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة والأخرى هي المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، كما تشارك الأمم المتحدة بأشكال مختلفة في المحكمة الخاصة لسيراليون، والدوائر الاستثنائية في المحاكم الكمبودية، وغيرها.
وتمثل المحكمة الجنائية الدولية الإطار القانوني الذي يفرض العقوبات الجنائية على الأفراد والكيانات القانونية مثل الدول والمنظمات الدولية، على أساس انتهاكات جسيمة للقوانين والمعاهدات الدولية. وتعكس المسؤولية الجنائية الدولية مبدأ أساساً يقضي بأن الجرائم الجسيمة التي تؤثر في مجتمع البشرية بأسرها تجب محاسبة الفاعلين لها دون استثناء.
وتجسّد هذه المسؤولية مفهوم العقوبة الجنائية في السياق الدولي التي تشمل العقوبات مثل السجن والغرامات والعقوبات الأخرى التي يمكن تنفيذها على الأفراد المدانين بارتكاب جرائم دولية مثل الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية.
ويقتصر اختصاص المحكمة على أشدّ الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، ويأتي في مقدمتها جريمة الإبادة الجماعية بقصد إبادة كلية أو جزئية، لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، كقتل أفراد جماعة، أو إلحاق أذى جسدي أو عقلي خطير بهم، أو إخضاعهم عمداً لأوضاع معيشية تؤدّي إلى تدميرها الجسدي الكلي أو الجزئي.
وتعدّ الجرائم ضد الإنسانية من اختصاص محكمة الجنايات الدولية، وهي جرائم يرتكبها شخص بصفته عضواً في جماعة منظمة أو مجموعة منظمة على نحو خاص، بقصد ارتكابه كجزء من نمط واسع النطاق أو منهجي من الأعمال المرتكبة ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، بقصد قتل أفراد الجماعة، أو إلحاق أذى جسدي أو عقلي خطير بهم، أو إخضاعهم عمداً لأوضاع معيشية تؤدّي إلى تدميرها الجسدي الكلي أو الجزئي.
ومن اختصاص المحكمة أيضاً جرائم الحرب التي ترتكب في إطار نزاع مسلح دولي، أو في إطار نزاع مسلح غير دولي بقصد مهاجمة مدنيين أو قوات غير نظامية مسلحة أو قوات ميليشيات أو أية جماعة أخرى غير مسلحة لا تشارك بشكل مباشر في الأعمال العدائية، ومهاجمة الممتلكات المدنية التي لا تستهدفها الأعمال العدائية، ومهاجمة أماكن محمية بموجب اتفاقيات جنيف ١٩٤٩، واستخدام أسلحة أو أساليب حربية تسبّب معاناة غير ضرورية أو إصابة جسيمة أو أضراراً واسعة النطاق والقتل العمد، أو التعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو غير الإنسانية أو المهينة.
كذلك تعدّ جريمة العدوان من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية التي تشمل الهجوم المخطط له أو الهجوم المرتكب من جانب دولة ضد أراضي دولة أخرى، أو هجوم مسلّح من جانب دولة ضد سيادة دولة أخرى أو استقلالها السياسي أو وحدة أراضيها أو أمنها الإقليمي، باستخدام القوات المسلحة، أو إلقاء حصار بري أو بحري أو جوي من جانب دولة ضد دولة أخرى.
ويمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تمارس اختصاصها على هذه الجرائم بعد بدء نفاذ نظام روما الأساسي بالنسبة للدولة المعنية (المادة ١١). ويمكن للمحكمة أن تمارس اختصاصها على الجرائم المذكورة آنفاً إذا كانت الجريمة قد ارتكبت على أراضي دولة عضو في نظام روما الأساسي، ويشترط القانون الدولي الجنائي أن يكون الفعل أو الامتناع عن عمل قد ارتكب في سياق نزاع مسلح أو غير دولي، وهذا يعني أن تكون مرتبطة بالنزاع المسلح، وأن تكون قد ارتكبت في سياقه، ومثال ذلك مهاجمة مستشفى مدني في منطقة نزاع مسلح.
وكانت دولة فلسطين المحتلة قد انضمّت إلى المحكمة الجنائية الدولية في الأول من نيسان عام ٢٠١٥، وأصبحت بموجب ذلك تتمتع بحقوق الدول الطرف وتلتزم بواجباتها، حيث بدأت المحكمة الدولية تحقيقاً أولياً في حرب غزة عام ٢٠١٤، وقدمت السلطة الفلسطينية للمحكمة في حزيران أدلة على جرائم ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين. ووجد تقرير للأمم المتحدة أدلة على جرائم حرب ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ومنذ السابع من شهر تشرين الأول ٢٠٢٣ ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي جرائم إبادة جماعية ضد المدنيين في قطاع غزة، في انتهاك صارخ للقوانين الدولية وحقوق الإنسان. وقد قدم ناشطون حقوقيون أدلة وقرائن على ما تم ارتكابه من جرائم إسرائيلية في قطاع غزة، ولعل أبشع صورها تجلّى في اقتحام مشفى الشفاء الطبي ومحيطه، وارتكاب مجازر وإعدامات ميدانية بحق المرضى والجرحى والطواقم الطبية والمدنيين العزل، فضلاً عن عمليات التدمير الممنهج التي طالت البنية التحتية للقطاع الصحي والدفاع المدني.
وقدّم الناشطون تقارير وأدلة تثبت استهداف جيش الاحتلال للطواقم الطبية والإغاثية والصحفيين، مثبتة بأرقام دقيقة حول أعداد الضحايا الذين تم استهدافهم منذ بدء العدوان على غزة، بما يرقى لجرائم ضد الإنسانية.
كذلك تم تقديم وثائق وشهادات ومعلومات من أفراد يمكن أن تستخدم أدلة داعمة لتورّط مسؤولين إسرائيليين في هذه الجرائم، حيث يتخوّف رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” وقادة إسرائيليون كبار من إصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرات اعتقال دولية بحقهم على خلفية ارتكابهم جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة.
وكانت جنوب إفريقيا تقدّمت في ٢٩ كانون الأول الماضي بطلب لمحكمة العدل الدولية لإقامة دعوى قضائية ضد الكيان الإسرائيلي، مطالبة باتخاذ تدابير توفر الحماية للفلسطينيين في قطاع غزة وتضمن امتثال المسؤولين الإسرائيليين للقانون وعدم ارتكاب جرائم إبادة جماعية. وقد أمرت المحكمة في ٢٦ كانون الثاني الكيان الإسرائيلي باتخاذ تدابير مؤقتة لضمان حماية الفلسطينيين وتمنع تنفيذ إبادة جماعية في قطاع غزة.