الفراشة بين ضوء وريح
غالية خوجة
ماذا لو أن لكلّ إنسان فراشة خاصة به في هذا العالم؟ وماذا لو كان شكل قلبه فراشة؟.
تتحرك الفراشات في هذا الفضاء وكأنها تذكّرنا بنظرية توازن الكون ورفّة الفراشة وتأثيرها كمصطلح مجازي لـ “إدوارد لورينتز” منذ عام 1963، وكلما اقتربت من الضوء تجعلنا نسأل: لماذا الضوء مميت؟
كما جميع الأطفال كنا صغاراً نركض وراء الفراشات لنمسكها، نضحك، ونلهو، ولم نفكّر أن الضوء سيقتلنا ذات يوم، ويجعلنا مثل الفراشات نركض وراء القراءة والكتابة والعلم والثقافة والمعرفة، ناسين أنفسنا وحياتنا خارج المتن والهوامش، لأن أهالينا ومعلّمينا أكدوا لنا أن رسالة حياتنا مختصرة في هذه الحكمة: “العلم نور والجهل ظلام”.
وبالفعل، الضوء مميت لمن يحمل مصدر شعلته في فضاء مظلم من العقول الحالكة بالجهل، المساهمة في نفخ الأعاصير السوداء على الشعلة البيضاء كاملة الاحتراق، ولو كنت واحداً من هؤلاء، لرأيت كيف أنك تصبح فراشة تحاول القبض على اللهب لكي لا ينطفئ، ولو أحرق قلبك وعقلك، وتحاول أن تضيف الأفكار والمخيلة لمزيد من الاشتعال إلى أن تنتهي مع رحلتك الأخيرة التي لا رجعة منها، لكنّ دروب نورها متشجّرة بنبضاتك، وجذورها متمسّكة بالشعاع، ورسالتها تلمع وسط الضباب ورماد الجهل والرياح المظلمة.
الرسالة الضوئية تلمع مع رسائل الآخرين الضوئية، وكأنها شموع في كهف مظلم، تسكنه الخفافيش، بينما أشعتها فأشبهَ بمحارب قديم لا يستسلم، ولا يستريح مهما أرهقه التعب، والأفكار المشتعلة تتشبّث أكثر بالنبضات، تتجذّر أكثر بالتربة، وترفرف فراشاتٍ في كل فضاء.
ولو لم يرَ الشهيد تلك الأضواء لما أقدم، وكذا المبدع من عالم ومخترع وكاتب وفنان وباحث وطبيب ومؤرّخ ومعلم ومهني وفلاح وعامل وربّات منازل وأمهات، ولما اكتملت أجنحة الفراشات لتلتصق بأضوائها، تاركة للظلام الالتصاق أكثر بالعتمة، والانزياح أبعد عن الضوء.
هل هي معركة أزلية غير منصفة؟ أم أنها منتصرة للفراشة؟
لا بدّ من إشعال شمعة في الظلام، لكن، أي ضوء سينقذ الإنسان عندما يكون ذاته الشمعة والضوء واللهب وسط محيط من الظلام يتمدّد ويتمدّد ويورّث سواده لنسله أيضاً؛ بينما أعاصيره تدور ولا ترتوي، تأكل ذاتها وتتآكل ولا تنتهي؟.
الفراشات ترفرف بين ضوء وريح وعتمة ونار، والكون مرآة كبيرة للعناصر، لكنها بحاجة إلى الضوء لكي تتضح انعكاساتها في تلك المرآة العظيمة، وتظهر مدارات الكواكب، وتبيّن أشكال القلوب بنواياها الظاهرة والباطنة، لكنّ الزمن، دائماً، مستعجل، واللحظات تموت في الضوء لتشعّ مثل الشمس والقمر، كما تموت في العتمة لكنها ترفض أن تنزلق إلى تلك المستنقعات المظلمة الظالمة، ومن ثمّة، لا يرسو من اللهب سوى تلك الرسالة السابحة مع الضوء، المنتشرة في خلايا العتمة حتى زحزحتها إلى الفناء.
ترى، أيها القارئ، كم علينا أن نمكث في الشعلة؟
ترى، أيها الإنسان، كم على الشعلة أن تمكث فينا؟
وكم جمرة للصبر علينا أن نوقد كي لا نخسر أجنحتنا، وكي لا يتمدّد الظلام؟
أثق بأن الأسئلة لن تظلّ عابرة، لأن لكل منا ظلاً في مرآة الكون، ولكل ظلٍّ منا شعلة تتحرك في الأعماق البعيدة مثل النجوم، تلك النجوم القريبة مثل الذات، الساطعة حتى بعد الممات.
فماذا لو كنا جميعاً فراشات ترفرف بضوئها نحو الضوء بين ريح وظلام ورماح وأصوات معتمة وضجيج ضبابي وأعاصير ظالمة وصمت رمادي حتى لو كانت بوصلتها الأخيرة الموت؟.