“دبلوماسية حقوق الإنسان” تحدّدها حفنة من الأوليغارشيين
عناية ناصر
قوبلت الاحتجاجات التي شهدتها الجامعات الأمريكية في الأسابيع الأخيرة بالقمع، حيث ألقي القبض على ستة طلاب في جامعة بنسلفانيا بعد محاولتهم احتلال قاعة في حرم الجامعة، كما قامت الشرطة بإزالة مخيّم للطلاب في جامعة كاليفورنيا كان قائماً لأكثر من أسبوعين، واعتقلت 47 محتجاً.
وبشكل عام يستمرّ الكونغرس الأمريكي، والبيت الأبيض، ووسائل الإعلام الرئيسية، في القمع المنهجي لاحتجاجات طلاب الجامعات الأمريكية في الحرم الجامعي لتسليط الضوء على المعضلات الداخلية التي تواجهها “دبلوماسية حقوق الإنسان” في الولايات المتحدة. منذ أن بدأت إدارة جيمي كارتر في الدفاع عن “دبلوماسية حقوق الإنسان” في أواخر السبعينيات، كان التركيز على “حقوق الإنسان” و”القيم العالمية” دائماً مفتاحاً للدبلوماسية الأمريكية. لقد اتخذت الإدارات الأمريكية أرضية أخلاقية عالية باستخدام شعاراتٍ مثل “دبلوماسية حقوق الإنسان”، و”الإنسانية”، و”التدخل الإنساني”، وخاصة بعد نهاية الحرب الباردة.
لقد أدّت واشنطن دور “الواعظ في مجال حقوق الإنسان” و”الشرطي الإنساني” و”المؤهّل والمتمرّس في مجال حماية حقوق الإنسان على مستوى العالم”، كما أنها استخدمت “القيم العالمية في مجال حقوق الإنسان” كمبرّر للتدخل غير المشروط في الهيمنة على نطاق عالمي.
من الناحية العملية، هذه الجولة من الاحتجاجات في الحرم الجامعي في الولايات المتحدة تتماشى في الواقع مع الإطار المعرفي لـ”دبلوماسية حقوق الإنسان” و”التدخل الإنساني” الذي أنشأته الولايات المتحدة. من الواضح أن العدوان الصهيوني على قطاع غزة قد تسبّب في عواقب سلبية خطيرة تتجاوز بكثير المعايير الإنسانية، وهو ما أثبتته الأدلة الدامغة، بما في ذلك التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة والكم الهائل من مقاطع الفيديو التي ظهرت على الإنترنت. بدأ طلاب الجامعات الأمريكية، في أعقاب المفاهيم الإنسانية وقيم حقوق الإنسان التي تعلموها في جامعاتهم وسمعوا عنها في الأخبار، بالمطالبة بوضع حدّ للعلاقات المالية التي تربط مدارسهم بـ”إسرائيل” ودعم بلادهم لـ”إسرائيل”، وانتقدوا تصرّفات “إسرائيل” في غزة. وهذا، من الناحية العملية، يتماشى ليس فقط مع تقاليد الحياة الجامعية وترسيخ نظام التعليم في الولايات المتحدة، ولكن أيضاً مع تصوّر الولايات المتحدة باعتبارها “مدافعاً عن حقوق الإنسان”، وهي الصورة التي شكّلتها ودافعت عنها منذ فترة طويلة.
إذا تمكّنت إدارة جو بايدن من الامتثال لمطالب الطلاب واتخاذ الإجراءات اللازمة للردّ بشكل إيجابي وفعّال، فإنها لن تفوز بالدعم والأصوات لإدارة بايدن فحسب، بل ستسجل أيضاً المزيد من النقاط الأخلاقية لصورة الولايات المتحدة الدولية. علاوة على ذلك، يمكن أن يخلق ذلك تناقضاً صارخاً مع منافس بايدن في الانتخابات، دونالد ترامب.
ولكن من الواضح أن حكومة الولايات المتحدة، جنباً إلى جنب مع النخب في البلاد، استخدمت أفعالها لتلقين درس لكل الأفراد في مختلف أنحاء العالم الذين لديهم أوهام حول “دبلوماسية حقوق الإنسان” التي تنتهجها الولايات المتحدة، بما في ذلك طلاب الجامعات في أمريكا. إن المعنى الحقيقي لـ”دبلوماسية حقوق الإنسان” يعني استخدام “حقوق الإنسان” و”الإنسانية” كأداة للدبلوماسية الأمريكية، ولا يتم تعريف دلالة هذين المفهومين من طلاب الجامعات الأمريكية أو الأمم المتحدة أو الفلسطينيين الضحايا. إن “دبلوماسية حقوق الإنسان” لا يمكن تعريفها إلا من النخب الأمريكية التي تمتلك أعلى سلطة في دائرة صنع القرار في واشنطن.
وهذا أمر مثير للسخرية للغاية، وإلى حدّ ما، هذا يعادل القول إن تلك القوى فقط هي التي يمكنها أن تقرّر من هو إنسان ومن ليس كذلك. إنها لكارثة أن نرى مثل هذه المعايير المتعدّدة الصارخة، والنزعة الإنسانية المتناقضة و”دبلوماسية حقوق الإنسان” التي تحدّدها حفنة من الأوليغارشيين وجماعات الضغط.
ومن ناحية أخرى، ما يحتاج طلاب الجامعات الأمريكية المقموعون إلى التفكير فيه هو كيفية إنقاذ الولايات المتحدة في المستقبل من مثل هذا المأزق. وقد يكون هذا شيئاً أكثر أهمية بالنسبة للولايات المتحدة والعالم من مجرد الاحتجاج.