ثقافةصحيفة البعث

أليس مونرو.. معلمة القصة القصيرة وسيدة التفاصيل

جمان بركات

“أجمل الفترات في الكتابة حين تتلقى الفكرة وتواجهها واضحة، ليس في المسألة شيء يشبه الروح، إنما لبّ المسألة شيء لا يمكن وصفه بكلمة، وتصطدم بها كما لو أنها كانت دائماً هناك تحوم في رأسك، ولا تزال كخرافة بلا قالب ولا معالم شيء فقط يمكن أن يأخذ طريقه إلى الحياة كنوع من حياة عامة حين تلفه الكلمات..”.

هكذا كانت أليس مونرو -التي غادرت الحياة منذ أيام عن عمر ناهز الـ 92 عاماً- تنظر للكتابة التي امتدت سفوحها واسعة أمامها لتنسج بمدادها العابق بالشغف من كلّ حدث حكاية، وفي هذه الحكايات كلها كانت سيدة القصة القصيرة التي انتهكت قوانين تشكيلها، ولم تطع القواعد التي تقوم عليها الخطوات التقليدية في الكتابة، كما لم تفكر في شكل محدّد لها بقدر ما فكرت بمضمون القصة، حفرت عبر كتاباتها العادي في اللاعادي، وحرفت مسار الأحداث المتوقع دوماً بفعل جنونيّ تقوم به إحدى شخصيات قصصها التي تبدأ من النهاية وتنتهي في الوسط، ولطالما وُصفت بأنها تتمتع بمرونة عجيبة وبدفء وعمق كبيرين في نثرها، فقد استطاعت أن تحقق في ثلاثين صفحة من القصص ما يعجز بعض الكتّاب عن إنجازه في روايات كاملة.

أخلصت مونرو للقصة القصيرة طوال مسيرتها الكتابية الممتدة إلى ما يزيد على نصف قرن، حافظت على إصرارها الكبير ودوافعها القوية في تحقيق ذاتها كأديبة تؤمن بالبيئة التي تعيش فيها كـ”مصدر إلهام أساسي لها”، وبحثت في التفاصيل الصغيرة من سلوكيات وهيئات وأشكال وشخصيات وكوّنت في ذاكرتها عوالم متكاملة نقلتها إلى الورق.

ولدت مونرو عام 1931 في وينغهام غرب مقاطعة انتاريو، والدها روبرت اريك ليدلو صاحب مزرعة ووالدتها مدرّسة، وما إن بلغت سن المراهقة حتى قرّرت أن تصبح كاتبة، ولم تخن قرارها هذا رغم ما واجهت من صعاب في مطلع مسارها.

تسرد مونرو حياة الفتيات والنساء وكأنها تدلي على الورق ما عانته من علاقة صعبة مع والدتها التي تقول عنها: “رغبت أمي في أن أسطع بطريقة لم أكن حاضرة لها”، مرض أمها الذي أصيبت به عندما كانت في العاشرة من عمرها بنوع غير عادي من مرض باركنسون، جعلها تهرب إلى الكتب لعلّ شيئاً من سحرها يتسلّل إلى حياتها، إلا أن معاناة أخرى تسلّلت إليها أيضاً لتزيد من مأساتها وهي الوحدة في المدرسة، فعجزت عن تكوين صداقات وبدأت وهي تسير في طريق مدرستها الطويل بابتكار القصص التي منحتها فرصة لبلورة أفكارها على الورق، حيث جعلت نهايات القصص التي قرأتها مثل “حورية البحر” للكاتب الدانماركي هانز كريستيان أندرسن مختلفة، وحولتها إلى إنسانة تحظى بحب الأمير لكنه لا يعشقها فتموت، بقيت مونرو تكتب سراً وترسل المخطوطات إلى الناشرين لترفض وتعاد إليها، 15 عاماً تكتب وتُرفض إلى أن جلست في السابعة والثلاثين في مكتبة زوجها، وكتبت من دون هاجس هذه المرة، وأحسّت بأنها تقوم بمهمة في عالم حقيقي.

حمل البريد ست نسخ من مجموعتها الأولى فذُعرت وخبأتها في الخزانة تحت الدرج، كان عليها الانتظار أسبوعاً لتجد الجرأة على قراءة كتابها وتنتهي راضية وتصبح كاتبة رسمياً، إذ نشرت مجموعتها الأولى “رقصات الظلال السعيدة” تلتها “سلام أوتركت” التي كتبتها بعد وفاة والدتها و”أقمار جوبير” و”تطور الحب” و”صديق طفولتي” و”الأسرار المفتوحة” وأخيراً “الحياة العزيزة” 2012 التي قالت إنها ستكون آخر أعمالها.

تدور معظم قصصها في مدن صغيرة، ولم يكن مستغرباً منها أن تحوّل بلدتها إلى عالم قصصي كامل، ليس ثمة تفصيل لا مكان له في أدب مونرو، ولم يكن النّفَس القصير في قصصها عائقاً أمام رسم ملامح عالم روائيّ حافل، هي ترى أن الأشياء الكبرى مثل الشرور التي تحدث في العالم لها صلة مباشرة بالشرور التي تحدث حول طاولة عشاء، وبأنّ القصة الطويلة -نوعها المفضّل في الكتابة- أفضل وسيلة في التعبير عن هذه الصلات، لأنّ الأمر المهم هو “كيف حدثت الأمور” وليس “ما الذي سيحدث”، كما يتوقّع القرّاء من أي عملٍ أدبي.

تتمتّع شخصية كاتبتنا بالتواضع والفهم الدقيق والإدراك الحصيف للواقع مع خيالٍ خصبٍ عملت على تنميته منذ طفولتها، فتستند قصصها إلى لحظة تجلٍّ وكشف مفاجئ ثم تمضي القصة بتفاصيل موجزة ودقيقة وملهمة، حيث تقتصر على عقدة واحدة ثم انعطافة مفاجأة في الحدث الخارجي أو الداخلي ولكن الأحداث لديها تتعدّد وتلتف لتغيّر خيوط العقدة، وغالباً ما تكون الحبكة في أعمالها الأولى عن فتاةٍ وصلت سن البلوغ وبدأت رحلة معاناتها مع العائلة والبلدة الصغيرة التي تحدّ من أحلامها، بعدها صارت مونرو أكثر ميلاً في شخصياتها إلى البطلات- النساء الناضجات، وعادةً ما تقارن بمواطنتها مارغريت آتوود الأكثر جرأة، لكن هدوء شخصية مونرو المنعكس على أدبها، جعل الكثير من النقّاد يصفون أدبها بأنه “عن النساء ولهنّ، ولكن دون أَبْلَسَة الرجال”.

في عام 2013، حازت مونرو جائزة نوبل بعد عقود من التجاهل، وبعد أن صارت مجموعاتها القصصية مثل الشهب الملتهبة، فكانت أول كاتبة كندية تفوز بالجائزة، حيث توصف بـ”معلّمة” القصة القصيرة وسيدة التفاصيل لما تميّزت به من مهارة في صياغة الأقصوصة التي تطعمها بأسلوب واضح وواقعية نفسية، فقد حرصت على تفريغ الأفكار التي تحوم في رأسها على هيئة قصص تميّزت بها وجعلتها تفوز بجائزة “مان بوكر العالمية” عام 2009 من بين أربعة عشر كاتباً عالمياً.

قد تبدو كتابتها بسيطة، لكنها البساطة المثالية التي تستغرق إجادتها سنين ومسوَّدات، فهي المتميزة بوجود راوٍ يوضح معنى الأحداث مما جعل الأديبة الأميركية من أصل روسي سينتيا أوزيك تقول إنها “تشيخوف” العصر الحديث لقدرتها على خلق حياة كاملة على صفحة واحدة، ولأنها عرفت كيف تدخل إلى خفايا القلب الإنساني لترسم لنا تماسه مع شرط وجوده، فقصصها تمنح عمقاً وحكمة ودقة، وقراءة عمل لـ أليس مونرو يعلمنا شيئاً جديداً في كل مرة، شيئاً لم يخطر في بالنا من قبل.