تحقيقاتصحيفة البعث

مشافينا تنزف كوادرها.. والمعنيون يكتفون بالدعوة لـ”ورقة عمل تشاركية” فهل تنفع لتضميد الجرح؟!

غسان فطوم

وسط استمرار نزيف الأطباء بمختلف التخصّصات إلى بلدان أوربية وإفريقية وعربية، أقامت وزارة الصحة منذ يومين لقاءً حوارياً تمّ خلاله تقديم عدة مقترحات وحلول، لعلّ وعسى تنفع في تضميد الجرح وإيقاف النزف الكبير.

وفي تعليق على اللقاء الحواري، أبدى بعض الأطباء قلقهم من خطورة نزيف خيرة الكوادر الطبية، معتبرين أن المقترحات تحتاج لإرادة قوية وإدارة ناجحة أو فريق عمل تُعطى له الصلاحيات الكاملة بتطبيق الحلول، وغير ذلك تبقى كل الندوات والحوارات مجرد طبخة بحص لن تنضج أبداً.

ابحثوا عن السبب

الخطير في هجرة الأطباء أن الخريجين الجدد في الكليات الطبية هم أول الراغبين بالهجرة، حيث بات همّهم واهتمامهم كيف يحصلون على تذكرة الهجرة بغضّ النظر عن الطريقة، لدرجة أن العمل في المشافي الحكومية أصبح عند البعض آخر همّهم!، وعند سؤال بعضهم عن السبب، أوضحوا أن الرواتب المتدنية والتعويضات الهزيلة لا تساوي ربع الجهد الذي يبذله الطبيب في المشفى، بالإضافة إلى سوء المعاملة الإدارية، مؤكدين وجود ضغط كبير عليهم بسبب النقص الحاصل بعدد الأطباء، عدا عن غياب “الإدارة الفاعلة لنظم المعلومات الصحية، وضعف توافر التجهيزات الطبية النوعية وقطع الصيانة” وذلك كان واضحاً في مداخلات الحضور أثناء الحوار المذكور.

على سبيل المثال لا الحصر، الأطباء المقيمون في مشفى ابن النفيس في مختلف التخصّصات هم الذين يقومون بعبء العمل في المشفى نظراً لعدم وجود أطباء مختصين بعدما تسرّب أغلبهم وهاجر، وأغلبهم بدأ يعمل للهجرة، وهم يرون الأفق مسدوداً أمامهم لجهة تحسين الرواتب والحوافز وتأمين السكن المناسب، وقسْ على حال الأطباء المقيمين والعاملين الأصليين في باقي المشافي طالما هناك غياب لنظم التحفيز المادي والمتابعة والتقييم العادل للأطباء!.

حزم حقائبه وهاجر!

ويُحكى أن طبيباً متخصصاً في التجميل من كبرى الجامعات الروسية عندما حاول أن يحصل على عقد عمل في أحد المشافي الحكومية وضعوه في قسم الإسعاف، والسبب أن رئيس القسم المختص لا يريده، فحزم حقائبه وهاجر إلى إحدى الدول العربية ليمارس اختصاصه.

وبحسب الأرقام المتداولة على لسان أحد أعضاء نقابة أطباء دمشق هناك بحدود الـ 10 طلبات يومياً ترد للنقابة خاصة بتسيير أوضاع أطباء قدامى وجدد في المهنة يرغبون في السفر، وخاصة إلى ألمانيا التي يتواجد فيها أكبر عدد من الأطباء السوريين والذي يزيد عن 6000 طبيب، بل هناك من يتداول رقماً أكبر من هذا قد يصل إلى 7000 طبيب.

وعلى ذكر الأرقام لا توجد حتى الآن إحصائية دقيقة لعدد الأطباء السوريين المهاجرين، سواء طب بشري أو أسنان، وبكل الأحوال وقياساً بالواقع الحالي الموجود في مشافينا العامة والخاصة التي تعاني من نقص شديد، فإن الرقم يزيد عن الـ 20 ألف طبيب، وهو في تزايد أمام انعدام الحلول!.

عملة نادرة!

وبالحديث عن نزيف الكوادر الطبية لا يمكن إغفال هجرة أطباء التخدير، وهي الهجرة الأكثر خطورة، نظراً لقلة عددهم وكبر أعمارهم، وباتوا اليوم كالعملة النادرة، الأمر الذي يهدّد بشلل القطاع الصحي، صحيح أن الحكومة قامت مؤخراً بدعم أطباء التخدير بتحسين رواتبهم وحوافزهم، بحدود الـ 300 ألف ليرة شهرياً كحوافز ومكافآت لكن ذلك لم يحلّ المشكلة، لأن ما يتقاضاه طبيب التخدير خارج سورية بشهر واحد يفوق مرتبه لعام كامل بل وأكثر في مشافينا.

وبحسب الإحصائية الرسمية يُقدّر عدد أطباء التخدير في سورية بـ 500 طبيب فقط، علماً أن حاجة مشافينا العامة والخاصة تفوق  الـ 1500 طبيب، مع الإشارة إلى أن أغلب الأطباء العاملين من أعمار متقدمة.

اعتراف.. ولكن!

بالعودة إلى مجريات اللقاء الحواري كان واضحاً إقرار كل الحاضرين بأن “العامل الاقتصادي وما يتضمنه من تضخم وعدم كفاية للرواتب والأجور ونقص الحوافز والتعويضات وارتفاع أجور السكن والنقل والمعيشة..” هو أكثر الأسباب التي تدفع الأطباء للهجرة، فيما أشار آخرون إلى عوامل إدارية تتعلق بتوظيف وتوزيع الكوادر الصحية بشكل غير عادل!.

وأثناء جلسة الحوار اعترف نقيب الأطباء الدكتور غسان فندي أن هجرة العقول والكفاءات الطبية معضلة مزمنة تعاني منها سورية كغيرها من دول العالم، لأسباب مختلفة، مثل “الحروب أو البطالة أو قلة فرص التقدم الوظيفي أو ندرة مجالات البحث العلمي”.

ودعوة رئيس نقابات العمال جمال القادري إلى إيجاد حلول خلاقة وتلافي الأخطاء للحفاظ على الكوادر والخبرات المتبقية، من خلال تحسين الوضع المادي للكوادر الطبية العاملة عبر تأمين الدخل المناسب والتعويضات، لا يمكن تفسيرها إلا بوجود نوع من اللامبالاة في التعامل مع ملف هجرة الأطباء والعاملين في القطاع الصحي من ممرضين وفنيين، وغيرهم الذين باتوا مفخرة للأغراب بينما نحن نتحسر!.

يقول أحد الأطباء، إن مطالبة المتحاورين بإيجاد موارد مالية لتأمين التحفيز المادي للكوادر الصحية، عبر إعطاء مرونة أكبر في عمل الهيئات العامة، كان من المفروض أن يتم العمل عليه منذ أن بدأت أزمة هجرة الأطباء، وليس بعد أن استفحلت المشكلة ولم يعد بالإمكان السيطرة عليها، فاليوم البكاء على اللبن المسكوب لا يجدي، مع تقديرنا للمحاولات الإيجابية، لكنها لا تزال خجولة!.

ليس منطقياً!

للأسف لا تزال شماعة الحرب والعقوبات المفروضة على سورية حاضرة في تبرير التقصير أو التعثر في إيجاد الحلول الممكنة، سواء ما يتعلق بالقطاع الصحي أو غيره، وفيما يتعلق بملف هجرة الأطباء نحن مقبلون على أزمة كبيرة إن لم نغيّر أسلوب وآليات التعاطي مع الهجرة، فاليوم لم يعد مقبولاً بعد أكثر من /12/ سنة من الحرب فقدنا فيها عشرات آلاف الأطباء المهرة أن نكتفي بالاجتماعات وعقد الندوات ونقدم المقترحات لنتفق على “ورقة عمل تشاركية” ليتمّ تقديمها للحكومة لعلها تساعد في الحدّ من نزيف الكوادر الصحية!.

إن المطلوب السرعة القصوى في إيجاد حلول جذرية، وأهمها رواتب مميزة للأطباء وحوافز مجزية، بشرط ألا تكون على حساب المواطن الذي يكتوي من لهيب رفع أجور المعاينات والصور الشعاعية والمعالجات السنية والتحاليل الطبية، وإنما من “جيب” الحكومة، عدا عن أهمية العمل على بيئة إدارية مرنة وعادلة في تقدير وتقييم خبراتنا الطبية، ليكون ذلك حافزاً لطلبة وخريجي كليات الطبية للقبول بالعمل مستقبلاً في مشافينا!.