“البعث المتجدد”.. والحاجة لتجديد الأدوات!
الدكتور سومر منير صالح
كيف يبني الحزب رؤيته العامة عن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ هل ينطلق من الفكرة المجردة (الأيديولوجيا كبناءٍ تصورّي سابق) لتغيير الواقع، أم ينطلق من الواقع ليبني فكرة ورؤية تحسّن من هذا الواقع وتحلّ إشكالياته؟!
وعلى اختلاف الإجابات باختلاف ظرفيّ الزمان والمكان الذي ينشئ فيها الحزب السياسيّ، فالمشكلة الرئيسة ليست في جدلية الإجابة عن هذين التساؤلين بقدر تعلّقها بالبحث في إمكانية نقل هذه المقاربات -حين تبلورها- إلى الحيز الاجتماعيّ من جهة، ونجاح هذه المقاربات في حلّ إشكاليته ومعالجتها من جهةٍ ثانية، فغالباً ما تكون الرؤى النظرية على رصانتها وعقلانيتها مجرد أطروحات نظرية تصطدم بعقبات الواقع وتعقيدات الحياة المجتمعية وظروف الواقع الاقتصاديّ، ومسألة نجاح المقاربات في حلحلة مشكلات المجتمع مرتبطة حكماً بفعالية وواقعية ومرونة أدوات بناء هذه المقاربة النظرية من جهة، و فعالية أدوات المناقلة النظرية إلى الحيز الاجتماعيّ من جهةٍ ثانية.
وعليه، فكلّ مرحلة فكرية جديدة أو متجددة تحتاج تجديداً في الأدوات وإلّا وقع التجديد أسير المناظرات والنقاشات الحزبية، وعملية بناء الأدوات هيّ مسألة حاكمة لنجاح الفكرة والرؤية النظرية من جهة وحاكمة لفعاليتها في معالجة إشكاليات الواقع من جهة ثانية، ونقطة البداية في بناء الأداة هو الواقع بعد تحليل طبيعته، وتحديد احتياجاته، واستشراف مسارات تطوره سلباً أم إيجاباً، فإذا كانت الفكرة يمكن أن تُبنى وتُخط في العقل المجرد فحُكماً الأداة لا تُنبى بذات الطريقة، بل تبنى من موجودات الواقع، وإذا كانت الأدوات فعالةً في فترة زمنية معينة فهذا لا يعني البتة استمرار هذا النجاح في فترات زمنية لاحقة مختلفة معرفياً واجتماعياً، وهنا لابدّ من مقاربة هذا الواقع الجديد عموماً، المختلف في بناه الاجتماعية والاقتصادية، فقد أحدثت الفضاءات الرقمية تغيراً نوعياً في مجال التواصل الاجتماعيّ وأنماطه وأساليبه، وكذا الأمر في نتائج وتأثير هذا التواصل على منظومة القيم وقواعد السلوك ومستوى الحميمية في علاقات مستخدميها، تجاوزت حدود هذا التأثير التواصل الاجتماعيّ لتدخل في ساحة الفعل السياسيّ، لتغدو مع العقد الثانيّ من الألفية الثالثة أهمّ عوامل التغيير الاجتماعيّ وحتى السياسيّ في المجتمعات العربية، وساحةً لم تكن معهودةً وربما متاحةً لتشكيل الرأيّ العام في هذه المجتمعات، وذلك لما تمتلكه من إمكاناتٍ للتواصل والسّرعة في إيصال المعلومة وردّ الفعل، بحيث لم تعد الفضاءات التقليدية مثل وسائل الإعلام والأحزاب والنقابات بذات قدرة التأثير للفضاءات الجديدة، وبالتالي لم يَعد في عصر الثورة الرقمية مجتمع إنساني صرف، بل أصبح مجتمعاً إنسانيّاً، رقميّاً، وتكنولوجيّاً، بلغ في المجتمعات المتقدمة مرحلة “مجتمعات المعرفة”، التي توظف المعلومات كمحركٍ أساسيٍّ للتغيير الاجتماعيّ، ومعه تغيرت حدود الخاص والعام بالنسبة للمجتمع والفرد، وأحدثت هذه الطبيعة الرقمية تغيراً في الأنماط السيسيولوجية (السياسية -الاجتماعية) في المجتمع، فأصبح الفضاء العموميّ رقمياً، وهذا الفضاء هو الساحة التي تعمل بها الأحزاب وتعمل على ترسيخ طروحاتها النظرية في بناه المعرفية، وإحداث التغيرات الاجتماعية، والتأثير على السلطة، هذا ويُعدّ يورغن هابرماس المؤسس الفعلي لمفهوم الفضاء العموميّ (public space) في أطروحته التي نُشرت سنة 1960 تحت عنوان “الفضاء العموميّ اركيولوجيا الدعاية باعتبارها مكونٌ بنيويٌّ للمجتمع قائمٌ على النقاش والحجاج العقلي، فضاءٌ عقلانيٌّ نقديٌّ مدنيٌّ، غير أيديولوجيّ، يعدّ مجالاً للحياة الاجتماعية حيث يمكن تشكيل الرأيّ العام، فهو مكانٌ للتنشئة السّياسية لمفهوم المواطنة.
راهناً، شكّل الفضاء الرقميّ عموماً ومواقع التواصل الاجتماعيّ الرقمية خصوصاً ميداناً جديداً للمجتمعات للتعبير عن آرائهم وأفكارهم السّياسية والاجتماعية والثقافية، إضافةً إلى تفاعلهم الاجتماعيّ الثنائيّ والجماعّي في إطار المناسبات الوطنية والخاصة، حيث تتيح الفضاءات الرقمية فرصةً واسعةً للمجتمعات للمشاركة في قضايا الشأن العامّ والانخراط في المداولات والنقاشات العامّة من خلال ما توفّره لمستعمليها من مجالٍ لعقد نقاشاتٍ عامّةٍ ونشر مقالات رأيّ، والانتماء إلى مجموعات عملٍ ذات اهتمامات مشتركة، حيث ولّد التفاعل الرقمي الاجتماعي كياناً سياسياً افتراضياً ناشئ، تجاوز مفهوم المؤسسة السياسية التقليدية المعنية بتأطير العمل السياسي الاجتماعي كالأحزاب مثلاً ليدخل حيز إمكانية التغيير والفعل.
عكساً وربطاً بمرحلة التحول الفكريّ والتنظيميّ الذي يعيشه البعث راهناً سيما بعد اجتماع اللجنة الموسع للحزب (4/5/2024) بهدف مقاربة الواقع بطريقة أكثر واقعيةً، يعود سؤال الأدوات المرنة والفعالة للظهور، فلعقودٍ خلت شكلت السلطة أداة المناقلة بين الرؤى النظرية والسياسات الفعلية، بحكم مقتضيات دستور العام 1973، اليوم يعيش البعث في بيئةٍ اجتماعيةٍ متغيرةٍ كما حال جميع الأحزاب العالمية، فالمجتمعات الإنسانية عموماً أصبحت سريعة التغير، أقلّ أيديولوجية، أسرع في الاستثارة السياسية، والرأي العام بات استهلاكياً انفعالي عاطفي بفعل التغيرات الرقمية التي تحدثنا عليها، أكثر منه نقدّي عقلانيّ، مع هيمنة الصورة على الواقع، وأصبحت “العواصف الرقمية السريعة” بمعنى حدوث ردّات فعلٍ كبيرةٍ على شكل تعليقاتٍ وهاشتاغاتٍ حول القضية، مصحوبةً بشحناتٍ عاطفيةٍ كما لو كانت في الواقع الاجتماعيّ جزءً من حياتنا الاجتماعية، هذا الواقع يحتاج أدواتٍ من ذات الطبيعة للتحكم به وتوجيهه، وإلا ستنعكس المعادلة حكماً.
بناءً على ما تقدم ولاستدامة سيرورة الحزب الناجحة في البناء الوطني يحتاج البعث تجديداً في أدواته الثلاث: أداة بناء الرؤى، أداة المناقلة بين الرؤى والواقع، وأخيراً أدوات التأثير وتشكيل الرأي العام، ولعلّ الأخيرة تبدو الأكثر تعقيداً راهناً بحكم تعقيد حيثيات الظاهرة الاجتماعية السياسية في سورية، ونجاح هذه الأدوات مرتبطٌ بالابتعاد عن عقلية السيطرة والتحكم، والانتقال إلى عقلية التأثير الفعّال ثم التوجيه، أمّا أداة إنتاج الرؤى فرغم التحديات التي تواجهها فمزيد من الاهتمام الخاص بتوفير معطيات الواقع بشكلٍ صحيحٍ وسريعٍ مع تغذيةٍ راجعةٍ عبر مؤسسات الحزب لنخب البعث المفكّرة تكون حينها قادرةٌ على بناء الأطروحة النظرية، بشكلٍ عقلانيٍّ تسهّل على الحزب المناقلة الفعالة للواقع.
ختاماً: المجتمعات الإنسانية ليست كلّها مؤطرة سياسياً بأحزاب، ولا يجوز التعامل معها كتجمعاتٍ حزبية، والأحزاب الناجحة هيّ من تكسب ثقة المجتمع ودعمه، لا أن تسعى لتحزيبه لصالحها فالمسألة ليست عدداً في التقييم النهائي، هنا تأتي أهمية أدوات الحزب ومكمن نجاحه، فالعالم دخل مرحلةً مختلفةً اجتماعياً مع بدء المرحلة الرابعة من العولمة بخصائصها الاجتماعية والسيسيولوجية تزامناً مع ظروف المجتمع السوريّ الخاصة بفعل الحرب المفروضة عليه منذ أكثر من عقد وما خلّفته من آثارٍ اجتماعيٍة واقتصادية، والتي تحتّم علينا فهم طبيعة الواقع الجديد وبناء استجاباتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ موضوعيةً له، استناداً إلى رؤىً جديدة، وأدواتٍ جديدة كذلك الأمر.