تحرير الجنوب… إنجاز استراتيجي وسقوط لـ”الأحزمة الأمنية”
د.معن منيف سليمان
تمكنت المقاومة الوطنية من تحرير جنوبي لبنان، وأجبرت العدو الإسرائيلي على الانسحاب في ٢٥ أيار عام ٢٠٠٠ بعد احتلال دام نحو ثمانية عشر عاماً، وقد عدّ هذا الانتصار إنجازاً عسكرياً استراتيجياً للمقاومة، إذ أسقطت فيه الردع الإسرائيلي وأقامت توازن الردع، كما أفشلت نظرية الحزام الأمني الذي انتقل إلى داخل فلسطين، وأكدت أن خيار المقاومة هو السبيل الوحيد والأنجع لزوال الاحتلال.
كان العدو الإسرائيلي قد اجتاح بجيشه لبنان عام ١٩٨٢، ووصل إلى العاصمة بيروت، وخلال ذلك ارتكب عدّة مجازر وحشية بحق المدنيين الفلسطينيين اللاجئين في لبنان، كانت أبشعها مجزرة صبرا وشاتيلا، فيما كان الهدف الإسرائيلي من وراء اجتياح لبنان محاربة حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية لوقف عملياتها البطولية ضدّ المستوطنات الإسرائيلية في شمالي فلسطين المحتلة.
وفي حزيران عام ١٩٨٥، انسحب الجيش الإسرائيلي من جنوبي صور بعد أن ترك جيشاً عميلاً يقوم بمهمة عسكرية تهدف إلى حماية المستوطنات الإسرائيلية، وعندما أعلنت “إسرائيل” انسحابها، احتفظت بحزام أمني يمنحها العمل بحرية ضدّ أية محاولة هجوم من المقاومة، وذلك ضمن مساحة ٣٠ – ٥٠ كم وراء الحدود، وقد شكل هذا الحزام جزءاً مهماً من “العقيدة الأمنية” التي كانت قائمة في الكيان الإسرائيلي حتى الثمانينيات من القرن الماضي.
شرعت المقاومة في جنوبي لبنان في محاربة الاحتلال ودفعه للانسحاب خارج الحدود اللبنانية، وبما أن الردّ على هجمات المقاومة من الاحتلال الإسرائيلي أخذ شكل القصف المركّز على المراكز والتجمعات المدنية اللبنانية، كانت المقاومة من جهتها تردّ على القصف بقصف مماثل يطال المستوطنات الإسرائيلية في شمالي فلسطين المحتلة.
ولم تتوقف أعمال المقاومة على قصف المستوطنات، بل استهدفت في عملياتها الجنود الصهاينة وعملائهم خلال حرب العصابات، واستخدام أسلوب الكرّ والفرّ، حيث استطاعت المقاومة اللبنانية أن تحقق مكاسب مهمة، وانتصارات عظيمة على الجيش الإسرائيلي الذي أخفق إخفاقاً ذريعاً في حسم المعركة مع بضع مئات من المقاتلين المدربين تدريباً عالياً، ولم يكن باستطاعته الانتقال إلى حرب تقليدية يظهر فيها تفوقه، فيما لو خاضها ضد جيش نظامي.
ومع تصاعد هجمات المقاومة وتسارع وتيرتها والدعم السوري الكبير تحولت المقاومة في لبنان إلى ورقة ضغط تدفع العدو الإسرائيلي إلى الانسحاب ليس فقط من جنوبي لبنان، بل من الجولان السوري المحتل أيضاً، ما انعكس على الداخل الإسرائيلي، وزاد من حدّة الخلاف بين المؤيدين للانسحاب من جنوبي لبنان والمعارضين له، وتطور الخلاف داخل الكيان ونجحت المعارضة للاحتلال الإسرائيلي لجنوبي لبنان أخيراً في كسب المؤيدين وعلى رأسهم حركة “الأمهات الأربع” لعائلات مستوطني الاحتلال التي فقدت أبناءها في جنوبي لبنان، إلى جانب عدد كبير من الحركات.. كل ذلك ولّد ضغطاً كبيراً على حكومة الاحتلال، تزامناً مع تصاعد عمليات المقاومة التي ألحقت بالعدو خسائر فادحة في صفوف جنوده والمعدات والآليات، وبات رئيس حكومة الاحتلال إيهود باراك “في حينها” مقتنعاً بضرورة تنفيذ الانسحاب من طرف واحد من جنوبي لبنان وبالسرعة القصوى.
وهكذا اتخذ قراره على عجل، وخرج آخر جندي إسرائيلي من جنوبي لبنان يوم ٢٥ أيار ٢٠٠٠ ، وأُجبرت “إسرائيل” على تبديل “عقيدتها الأمنية”، حيث اقتنع الإسرائيليون أن إقامة “الحزام الأمني” لن يشكل حلاً يحول دون قيام المقاومة بالهجوم على المستوطنات الإسرائيلية في شمالي فلسطين المحتلة، ذلك أن العدو الإسرائيلي دفع ثمن احتلاله العسكري لجنوبي لبنان على مدار ثمانية عشر عاماً ما يقارب من ١٢٠٠ قتيلاً، وهو رقم كبير بالمقارنة مع قتلى حرب تشرين التحريرية ١٩٧٣، حيث بلغت حصيلتهم ٢٦٠٠ قتيلاً… إن هذه الحصيلة من القتلى هزّت الرأي العام داخل كيان الاحتلال، ودفعت رئيس وزراء حكومة العدو لسحب قواته.
ولما أجبرت المقاومة العدو الإسرائيلي على الانسحاب من طرف واحد ودون التوصل إلى اتفاقات أو ترتيبات أمنية مع الجانب اللبناني، فإن ذلك يعد سابقة خطيرة قد تدفع قادة الكيان إلى اللجوء إلى مثل هذه الحالة في المستقبل في الأرض المحتلة والجولان السوري المحتل؛ فقد حملت فئة من الإسرائيليين، وخاصة العسكريون منهم الانسحاب من جنوبي لبنان مسؤولية اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، حيث تيقنوا من أن الانتصار في الجنوب شجع الفلسطينيين على التمسك بخيار المقاومة والعودة إلى القتال ولغة الحرب بوصفها اللغة الوحيدة التي يفهمها العدو الإسرائيلي.
وكان الانسحاب قد وقع على نحو أضر بهيبة العدو الإسرائيلي وقدرته على الردع، وخاصة أنه أخفق في نزع سلاح المقاومة، بل أصبح لدى المقاومة سبب جديد لاستمرار عملياتها وهو المطالبة بالانسحاب من مزارع شبعا التي تجاهلها القرار ٤٢٥ تماماً.
ومع إعلان المقاومة انتصارها المؤزر على جيش الاحتلال الإسرائيلي، فقد ظهر واضحاً أن المقاومة حطمت صورة “إسرائيل” في المنطقة كونها القوة العظمى التي لا تقهر، وأقامت في مقابلها توازن الردع والرعب.
وفي هذا الصدد أكد المحلل الإسرائيلي للشؤون العسكرية “يوآفليمور” على تآكل الردع في لبنان، معلقاً على الوضع في مستوطنات شمالي فلسطين المحتلة بالقول: إن كل ما يتطلبه الأمر من حزب الله هو قذيفة صاروخية واحدة في اليوم لإبقاء الشمال واقفاً على رؤوس أصابعه، مشيراً إلى أن الحزام الأمني الذي كان موجوداً في جنوبي لبنان موجود الآن في الجليل، في إشارة إلى المناطق الحدودية التي سيطرت عليها “إسرائيل” في مرحلة الحرب على لبنان منذ مطلع الثمانينيات قبل التحرير عام ٢٠٠٠.
لقد أصبحت المقاومة اللبنانية بعد التحرير رقماً صعباً في المعادلة الإقليمية، وتبين للكيان الإسرائيلي أن كسر إرادة المقاومة أمر غير قابل للتحقيق، ولا سيما في هذه الأيام التي تشهد تصعيداً عسكرياً مع الكيان إسناداً للمقاومة في غزة، وإنها قاب قوسين أو أدنى من انتصار جديد.