كتب.. جامعة الأقصى!
حسن حميد
أجل..
إننا نتذكركم في كلّ شر مر في الدنيا كلها! وفي كل لحظة حزن غامق، وفي كل أسى، فلا تتخطاكم، بسبب أفعالكم الناقصة، المقارنة ما بين شر وشر، وما بين ظلم وظلم، وعامة شائنة وأخرى أكثر شناءة وأعمّ.
الآن، ومن أرض غزة، وعبر البريد الحربي يرسل جندي إسرائيلي رسالة إلى أمه من أسطر قليلة، يقول فيها: عذراً يا أمي، وقتي لحظوي، وخطوي عجول، إنهم لا يتركوننا نتنفس، هم كائنات من حواس يقظى، وانتباهات لا تعرف السهو أو النوم، لكن الأمر ملحّ، ورغبتي في إخبارك برق وأكثر، لقد دمّرنا جامعات كثيرة لهم ليعمّهم الجهل، واليوم، وخلال وقت قصير، كنت في جامعتهم، جامعة الأقصى التي نالت في المرات الماضيات، نصيبها من التدمير، لكننا سهونا عن مكتبتها.
اليوم، كان لي شرف حرقها كلها، ووقفت بعيداً عنها، ورحت أراقب ألسنة النار المتطاولة، والريح وهي تسوق صفحات الكتب المتطايرة، شعرت بالفرح يرجّ قلبي، رضاك يا أمي.
وتنشر مواقع التواصل نص رسالة الجندي الإسرائيلي بوصفها فتحاً واختراقاً لدفاعات المجتمع الفلسطيني، وانتصاراً بهّاراً للسلاح الإسرائيلي، والجرأة الإسرائيلية.
نعم، أيها الإسرائيليون، نتذكّركم في كل عمل قبيح فعلتموه ومارستموه ليس فقط خلال الشهور السبعة الفارطات، إنما خلال الـ 76 سنة الماضيات بقهر لا يحتمل، فما من أفق في حياتنا إلا وهممتم بتسويده، وما من أرض تحت أقدامنا إلا وأفسدتموها، وما من بيت إلا وأدخلتم إليه الخوف، وما من مدرسة إلا واكفهرّت حين تراكم، وما من مشفى إلا ودستم جراح نزلائه، وما من مكان مقدّس إلا ودنّستم تاريخه، وما من بهجة، إلا وسرقتم فرحة أهلها، وما من هواء، إلا وحملتموه بروائح البارود، وما من خبر صباحي طالع إلا وملأتموه بالأذيات والعقابيل السود.
نعم.. أنتم بلا ذاكرة!
ومن يفقد الذاكرة لا يفقد حاضره فقط، بل يفقد مستقبله أيضاً. إنكم تمشون إلى مستقبل أسود، لأنكم لم تقرؤوا تاريخ الأمم التي أرادت العيش بصيغ الحرب، وإن قرأتم شيئاً من تواريخها لم تعوا الخواتيم التي كانت قاضية. في حرب طروادة لم يكتف عشاق سفك الدم بالتدمير، والقتل، ومطاردة النساء والأطفال والشيوخ في البيوت والشوارع، بل طاردوا الكتب.. وأحرقوها، كما تفعلون الآن، والخاتمة كانت بشاعة ومذلة.
حروب أوروبا الداخلية كلها كانت مدمّرة وحارقة حتى للكتب، والنتيجة كانت انطفاء ودقّ أعناق، فقد دالت كل تلك الشهوات الزائفة الباحثة عن الإبادة والدمار الشامل، والحروب الأهلية التي عرفها الغرب بين الإثنيات انتهت أيضاً بحرق الكتب، وخسر أؤلئك الذين قاموا بهذه الأفعال المعلولة، وحروب الفرنجة استمرت بإشعال الحرائق، والمخاوف، ومنادب البكاء طوال 200 سنة، وكان من بين ما احترق الكتب! لكي لا يعرف الأبناء الآباء، والأحفاد الأجداد، واللاحقون من سبقهم، ثم كانت الخاتمة هزيمة ساحقة ماحقة محتشدة بالمهانة والهوان.
بلى، نعرف هذا، ونعرف أيضاً، أنّكم، وفي كلّ حروبكم في بلادنا تقصّدتم الكتب، تقصدتموها في المدارس والمعاهد والجامعات والبيوت والأندية الثقافية والمعابد، بعضها طاله الحرق، وبعضها الآخر سرقتموه، أنذكّركم بما فعلتموه في القدس عام 1976، لقد حرقتم مكتبات عامرة، بعض كتبها كتبت على ورق البردي وورق الموز والجلود لأنّ يدكم الشريرة لم تصل إليها، وسرقتم مكتبات البيوت التي كانت تقاليد وعادات في عمران البيوت والمساجد والكنائس والأندية والمراكز والأندية الفلسطينية، كانت رؤية الكتب في الأمكنة الفلسطينية تغمّكم وتشلّ عقولكم، لأنّكم كنتم، وحين تفتحون أي معجم عالمي بحثاً عن تعريف للفلسطينيين، تجدون “إنه الكائن المثقّف الباحث عن المزيد من المعرفة لأنه عند الفلسطينيين، يتقدّم الغنى المعرفي”.
في حروبكم أيضاً، رأيناكم تسرقون مكتبات مراكز الأبحاث والدراسات الفلسطينية في بيروت، لأنّ الكتب تخيفكم بما فيها من أخبار وقصص وحادثات وأحداث كشافة للحق وتبشّركم بالخاتمة، خاتمة ثقافة التدمير والقتل والحرق التي تشعرون بدون ساعتها الآن.
رسالة هذا الجندي الإسرائيلي لا تأتي من فراغ، وهو يخبر أمه بأنه وفي لحظة واحدة حرق آلاف الكتب في جامعة الأقصى في غزة لأنه كان متأكداً من أنه سيدخل، بهذا الخبر، الفرح إلى قلب أمه التي وزّعت نص الرسالة على مواقع التواصل.
بلى، من يعادي الكتب لا يعادي الحاضر وحسب، بل يعادي المستقبل، وأنتم، أيها الإسرائيليون، طوال وقتكم المرّ في بلادنا الفلسطينية العزيزة، لم تبحثوا عن المستقبل، ما أردتموه هو تسيّد اللحظة فقط، وهذا تفكير من يعيش في الغابات، وتفكير من يدمّر ويخرّب لكي يعيش.
فقد الكتب فقد عزيز يساوي لدينا فقد الأبناء والبيوت، ولكن الهمم تعرف كيف تبني الحياة، والحياة في عرفنا حقول قمح وورد، وقناطر، وحواكير، وغناء، وورق، وأحبار.. وأفكار، وعقول حباها الله بالفطنة القارئة.
Hasanhamid55@yahoo.com