أكاذيب التعريفات الجمركية الأمريكية باتت مكشوفة
عناية ناصر
زعمت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين في اجتماع وزراء مالية مجموعة السبع ومحافظي البنوك المركزية، أنه في مواجهة “القدرة الصناعية الفائضة” لدى الصين التي تؤدّي إلى “اختلال توازن الاقتصاد الكلي”، لا بدّ من وجود “جبهة واضحة وموحّدة”، كما حثّت يلين الدول المتضرّرة – حسب زعمها- من “القدرة الفائضة” للصين على الردّ. وكان مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان قد صرّح بأن قضية “القدرة الفائضة” في الصين لا تشكّل تحدّياً ثنائياً بين الولايات المتحدة والصين، بل إنها تحدٍّ عالمي “يخلق خللاً في التوازن العالمي لا يؤدّي إلى الاستقرار”، وتأمل الولايات المتحدة التوصل إلى توافق مع الحلفاء بشأن هذه القضية.
وليس من الصعوبة بمكان رؤية أنه بعد أن رفعت الولايات المتحدة التعريفات الجمركية على الصين، فإنها تسعى الآن إلى تشكيل “تحالف تعريفي” لمكافحة قدرة الإنتاج الأخضر المتقدمة لدى الصين. ووفقاً لصندوق النقد الدولي فإن النهج الأمريكي “يشوّه التجارة والاستثمار”، لذلك حث صندوق النقد الدولي الولايات المتحدة على “الحفاظ على سياسة تجارية مفتوحة”، وإلا فإن ذلك “يمكن أن يكون مكلفاً للغاية بالنسبة للاقتصاد العالمي”. والآن عندما تتظاهر الولايات المتحدة بأنها حارس للسوق العالمية، فإنها متعالية ومتكبّرة جداً، حيث أصبح المجتمع الدولي ينظر إلى تصرّفاتها على أنها سخيفة.
منذ أن أعلنت واشنطن فرض جولة جديدة من الرسوم الجمركية على الصين، وهي تبحث عن “شرعية” لتصرّفاتها الرامية إلى تقويض التجارة الحرة، أو منع انتقاد الولايات المتحدة دولياً، أو التأثير في نظرة الدول الأخرى، وخاصة أوروبا. لقد تحدّثت الولايات المتحدة طويلاً عن سبب حاجتها إلى فرض الرسوم الجمركية، باستخدام مجموعات مختلفة من الكلمات، بدءاً من زعمها حماية العمال والشركات الأمريكية إلى منع المخاطر المشتركة بين الولايات المتحدة وأوروبا.
لقد أصبح من الصعب إخفاء أكاذيب الولايات المتحدة إلى الحدّ الذي جعلها تتوصل إلى تفسيرات لتعريفاتهم الجمركية بعبارات مثل “منع اختلال التوازن الاقتصادي العالمي” و”إفادة الناس والاقتصادات في جميع أنحاء العالم”.
وضمن هذا الإطار كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” عن نكتة من داخل واشنطن مفادها أنه “يجب إعادة تسمية الممثل التجاري الأمريكي ليصبح ممثل الولايات المتحدة المناهض للتجارة”، مشيرة إلى أنه حتى النخب السياسية الأمريكية لا تؤمن بهذا الخطاب المعبّأ ذاتياً، ناهيك عن استخدامه لخداع الرأي العام الدولي.
ويعكس الخطاب المتغيّر، من “القدرة الفائضة الصينية تهدّد الشركات الأمريكية” إلى “القدرة الفائضة الصينية تهدّد الشركات العالمية”، النكسات المستمرة التي تواجهها الولايات المتحدة. لقد حدث على الأقل تطوّران غير متوقعين في الموقف: الأول أن الولايات المتحدة لم تتوقع مثل هذه المعارضة القوية من الرأي العام الدولي والمحلي، فبدءاً من اليوم الذي تم فيه الإعلان عن التعريفات الجديدة، انتقدت وسائل الإعلام مثل “نيويورك تايمز”، و”وول ستريت جورنال”، و”فايننشال تايمز”، و”رويترز” هذه الخطوة بشكل مستمر، ما وضع ضغوطاً هائلة على واشنطن، حتى إن كبار المسؤولين في واشنطن اضطروا إلى اللجوء إلى المغالطة، مثل الادّعاء بأن فرض الرسوم الجمركية لن يرفع الأسعار ولا يعني أن الولايات المتحدة تتجه إلى الحمائية. وكان انتقاد صندوق النقد الدولي للولايات المتحدة بسبب تشويهها للتجارة والاستثمار سبباً في إرغام الولايات المتحدة على الإصرار على أن “هذا الإجراء ضروري”.
ثانياً، لم تكن الولايات المتحدة تتوقّع أن تكون المعارضة بهذه القوة في إقناع الاتحاد الأوروبي ودول أخرى. كلما تحدّث كبار المسؤولين الأمريكيين بشكل متكرّر حول ما يسمّى قضية “القدرة الفائضة” للصين، وحثوا الحلفاء وأقنعوهم وضغطوا عليهم ليكونوا على الصفحة نفسها معها، سلّط ذلك الضوء على حقيقة أن العديد من البلدان لا تتفق مع الولايات المتحدة بشأن هذه القضية.
من جهتها، كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن الاتحاد الأوروبي غير راغب في التنسيق مع الولايات المتحدة بشأن قضايا التعريفات الجمركية، وأن العديد من المسؤولين الأوروبيين يشكّكون في سياسة واشنطن تجاه الصين، ناهيك عن معارضة الشركات والصناعات الأوروبية والأمريكية. وفي سياق متصل، صرّح إيلون ماسك بصراحة مؤخراً أن شركة “تسلا” لا تحتاج إلى حوافز حكومية لتظل قادرة على المنافسة مع الصين، وأعرب عن “دهشته” من سياسة التعريفات الجمركية الجديدة للولايات المتحدة.
وفي وقت سابق، ذكرت هيلدغارد مولر، رئيسة الرابطة الألمانية لصناعة السيارات، أن فرض تعريفات جديدة والانزلاق إلى الحمائية هو الطريق الخطأ، كما صرّح رئيس مجموعة “بي إم دبليو” أوليفر زيبسي أيضاً أن تقييد شركات تصنيع السيارات الصينية ليس أمراً مفهوماً.
في الواقع، هذه الانتقادات الموجّهة إلى الولايات المتحدة، على الرغم من أنها تبدو الآن قاسية للغاية بالنسبة لواشنطن، إلا أنها في الحقيقة “دواء ناجع”، لأن التاريخ أثبت مراراً وتكراراً أن نزعة الحماية لا يمكنها أن تجعل أي صناعة أو اقتصاد أي دولة قوياً.
من المؤكد أن “قدرة الصين الفائضة” ليست مشكلة بين الصين والولايات المتحدة، بل هي مشكلة تتعلق بالقدرة التنافسية للولايات المتحدة ذاتها. إن استخدام التعريفات الجمركية ومختلف الحواجز غير الجمركية لحماية ما يسمّى الصناعات الضعيفة لا يوفر أي حماية، بل يعمل بدلاً من ذلك على تسريع تدهور الصناعة، كما تم التحقق مراراً وتكراراً في الماضي. وبعد أن اضطرّت الشركات الأمريكية إلى “الانفصال” عن سلسلة التوريد الصينية، لم تتمكّن من العثور على مورّدين بديلين، بل شهدت أيضاً انخفاضاً في القيمة السوقية، والقروض المصرفية، والربحية، وتشغيل العمالة.
والواقع أن الولايات المتحدة كانت تعمل على تضخيم اقتصاد الصين لسنوات عديدة، ولكن هذه الجهود لم تنجح قط في تعطيل وتيرة التنمية في الصين. والآن “لا توجد تعريفة كبيرة بالقدر الكافي لتقليص هيمنة الصين على التكنولوجيا الخضراء على مستوى العالم”. علاوة على ذلك، لا بدّ أن تكون هناك إمكانات كبيرة للتعاون بين الصين والولايات المتحدة في مجال القدرة على إنتاج الطاقة الجديدة، بدلاً من إقامة علاقة إضعاف وإضعاف مضاد. وفي هذا الإطار، أعربت بعض وسائل الإعلام البريطانية عن أسفها بالقول: وعلى الرغم من الحيل العديدة التي حاولت الولايات المتحدة تجربتها، فإن تحقيق “فك الارتباط التام أو الجزئي” سوف يظل أمراً صعب المنال.