ذكريات المكان معالم للزمان
غالية خوجة
اعتدنا على أن تكون المعالم مكانية، وما لم نعتد عليه هو أن تكون ذكريات المكان معالمَ للزمان، وهذا نابع من الإحساس الإنساني بالزمكانية، ووجداناتها الملتحمة مع لغة البعد الثالث البصرية، وانقلاباتها المتحوّلة إلى سمعية ومونولوغية وسرديات تصبح مرئية كلما تفلّتت من الأحلام والمخيلة إلى الواقع الملموس.
تتفاعل الحواس معاً، ومن الممكن أن ينوب بعضها عن بعض، لتمنحنا فضاء خاصاً من التجذّر والحنين، فتفيض مكنوناتنا وتتحاور مع الآثار بحجارتها وأطلالها ونوافذها وأبوابها وشوارعها وصمتها وهدوئها العميق وهو يفتح كتابه ويقرأ فهرسه عبْر العصور.
ولربما اكتشف البحّاثة والمنقّبون الكثير عن الآثار، لكنهم يتركون المخيلة للشعراء والأدباء الذين يستحضرون الزمان دفعةً واحدة، ويغوصون في معالمه المترسّبة، ربما، في هندسة الفراغ، أو فيزياء الكون، أو كيمياء الكلمات، أو بصيرة المعاني وهي تصير حواساً جديدة رأت كل هذه المعالم والعلوم منذ أن كانت في حالة الغياب.
لن يتوقع أحد أنّ هناك معالم مكانية أثرية قد تظهر لمحاً بين فترة زمنية وأخرى، ومن الممكن أن يقول أحدهم إنها خدعة بصرية مكانية طقسية سرابية تجعل أحدنا يرى قلعة طينية مخروطية أقرب إلى الحصن في مكان ليست فيه، أو بالأحرى، غير موجودة بالأصل، تبعاً للمختصين، كما حدث معي، ذات يوم، وفوراً، سألتُ المستضيفين الذين كانوا معنا في الحافلة ذاتها: ما اسم هذه القلعة الأثرية؟ لكنّهم استغربوا سؤالي مندهشين، متسائلين: أي قلعة؟ فأشرت إلى المكان الذي صار وراءنا قليلاً، مؤكدين لي أنه لا قلعة أبداً هنا، لكني حاولتُ إقناعهم بأني رأيتها طينية البناء، وأشبه ما تكون بـ “الزقورات” القديمة، وتلتف عليها وبشكل حلزوني حافة طينية أيضاً، ولإصراري واندهاشهم، عادوا بنا من حيث أتينا ومرت الحافلة على الدوّار ذاته، لكنني فعلاً لم أرها هذه المرة ولو لجزء من الثانية كما حدث في المرة الأولى!
وقد نزور مكاناً قديماُ ما، فنشعر بأننا رأيناه مسبقاً لشدة تشابهه مع المعالم الأثرية التي في وطننا، وهذا من الممكن أن يحدث مع أيّ إنسان سوري، يزور الإمارات، ويلمس الملامح العامة لآثارها وكيفية تشابهها مع بعض الآثار السورية، حتى لو كان ذلك مجرد شعور داخلي، لكنه شعور يؤكد قلبا مكانيا واحدا ينبض في معالم زمنية مختلفة، مرت عليها حكايات أناس متشابهين توحدهم العديد من العوامل البارزة مثل منحوتات على الآثار الزمنية ومعالمها وهي تحكي عن الحياة اليومية القديمة، لكنها، حكايات لا تمضي، بل تلتقي معاً، حكايات إنسانية تجلس أمام أبواب الدُور العتيقة، تشرب القهوة، وتأكل التمر، وتحدق في أبعد نقطة من الأفق، وكأنها بانتظار عودة الصيادين والبحّارة والفلاحين والغادين بقوافل طريق الحرير.
ما زالت الحكايات تنتظر شخوصها، شاردة مع الشمس آنَ الشروق، وآنَ المغيب، تعبر من “قلب الشارقة” ومنطقتها الأثرية، لتصل إلى “حي الفهيدي” بدبي، وتعرّج إلى “قصر الحصن” بأبو ظبي، وتكمل طريقها إلى “قلعة دمشق”، وتصل إلى “قلعة حلب” ومحيطها الذي ما زال يسكنه صهيل الأحصنة وقصائد المتنبي.
رحلة الحكايات المفعمة برائحة التوابل لا تنتهي، لأنها تعبر مع قوافل زنّوبيا لتعبر إلى الهند واليمن وكشمير والصين، معطّرة بنبضات الصانع، ونسيج الدامسكو، والفنون العالقة بالزجاج، والحنين المتسرب من الجرات الفخارية، وأطياف الذكريات المتبادلة بين الإنسان والزمان والمكان.
كأنني أرى أسلافي كما رأيت تلك القلعة الأثرية، هم يعبرون مع ذكرياتهم إلى أمكنة جديدة لا تراها العين المجردة، ونحن نحمل أحلامنا أجنحة وأشرعة ونمضي قوافل ستصبح ذكرى للأجيال القادمة.