٢٩ أيار.. ملحمة بطولية سطرها الأمن الداخلي
د.معن منيف سليمان
شنّ الاحتلال الفرنسي البغيض في ٢٩ أيار عام ١٩٤٥ عدواناً عسكرياً على حامية البرلمان في دمشق بهدف قمع الاحتجاجات الشعبية الرامية إلى تحقيق إرادة الشعب السوري للتحرر والاستقلال، فعُدّ هذا اليوم مناسبة وطنية لتخليد ذكرى استشهاد رجال قوى الأمن الداخلي، وعيداً رسمياً للاحتفال بقوى الأمن الداخلي، نستذكر فيه بطولاتهم من أجل التحرير والاستقلال وفضح جرائم الاحتلال الفرنسي لسورية الذي طالما تشدق بالحرية وحقوق الإنسان، ولا سيما حق الشعوب في تقرير مصيرها.
لقد سعى الاحتلال الفرنسي لسورية بعد أن شارفت الحرب العالمية الثانية على نهايتها إلى ترسيخ وجوده وتثبيت أقدامه على الأراضي السورية، وذلك بعد أن رجحت كفة الحلفاء في الحرب على خصومهم النازيين في ألمانيا، فرأت فرنسا أن الفرصة مناسبة لإعادة السيطرة على سورية، وبدأت تماطل في تسليم السلطات للحكومة السورية، كما بدأ الفرنسيون في استفزاز الحكومة السورية، واستثارة الشعب السوري، على الرغم من أن الحكومة السورية قد أعلنت أن يوم الثامن من أيار يوم احتفال بالنصر على ألمانيا النازية، ولهذا انطلقت الاحتجاجات الشعبية الغاضبة وعمّت أرجاء المدن السورية كافة، وخاصة بعد كشف الغطاء عن نياتهم في القيام بعدوان يستهدف مراكز حيوية في مدينة دمشق، فاستقدم الفرنسيون قواتٍ إضافية وشرعوا بنشر الآليات والمصفحات العسكرية في عدة مناطق رئيسة من مدينة دمشق، واتضحت نيتهم بضرب مقرّ البرلمان، وتصفية جميع الوزراء والنواب لإحداث فراغ دستوري يمكّن قوات الاحتلال الفرنسي من السيطرة على العاصمة بعد ضرب مراكز الشرطة والقلعة واحتلال جميع الدوائر الحكومية وفرض الحكم العسكري المباشر على البلاد، ولما كان يوم ٢٩ أيار ١٩٤٥ مقرراً أن تعقد فيه جلسة للمجلس النيابي بحضور وزراء الحكومة السورية، فقد حدّد الجنرال الفرنسي “أوليفييه روجيه” هذا اليوم لتنفيذ العدوان في تمام الساعة السادسة مساءً، وقد وجد ذريعة لبدء العدوان عندما طلب الفرنسيون من عناصر حامية البرلمان أن تصطف لتأدية تحية العلم الفرنسي عند إنزاله مساءً من دار الأركان الفرنسية مقابل مبنى البرلمان مباشرة.
وفي خضم هذا الجو المكفهر بدأت علامات التمرّد من الجنود السوريين العاملين تحت سلطة الاحتلال، وأخذ معظمهم بالتسرّب من قطعاتهم والالتحاق بالقوات الوطنية، ما دفع سلطات الاحتلال إلى التحرك على وجه السرعة لضبط زمام الأمور قبل أن تفلت من يدها، ووجه الجنرال “روجيه” تهديداً إلى رئيس البرلمان، بالانتقام من السوريين، وبالتزامن تم إلغاء الجلسة لعدم اكتمال النصاب وقد انصرف النواب والوزراء الذين حضروا، بينما طوّقت المصفحات الفرنسية مقرّ الحكومة والبرلمان في دمشق، فخرجت حشود شعبية إلى الشوارع تعبيراً عن غضبها من الاستفزازات الفرنسية للسوريين حكومة وشعباً وطالبت برفع الحصار عن مبنى البرلمان وأصبحت الأمور مهيّأة للانفجار. وفي أثناء ذلك رفضت حامية البرلمان أداء تحية العلم الفرنسي، فاتخذ الفرنسيون ذلك ذريعة للعدوان على حامية البرلمان، حيث تم قصف المبنى بجميع الوسائط النارية بما فيها قذائف الدبابات والمصفحات، في حين تمترس عناصر الحامية داخل المبنى وقرّروا الدفاع عنه وعدم الاستسلام بما يملكون من إيمان وكرامة وأسلحة فردية خفيفة، يدفعهم إلى ذلك حب الوطن والذود عن حياضه، وبعد أن نفدت ذخيرتهم اقتحمت القوات الفرنسية المبنى وارتكبت أبشع جريمة في التاريخ، حيث تم تمزيق أجساد الناجين من عناصر الحامية بالسواطير والحراب، وتقطيع جثث الشهداء بطريقة وحشية للغاية، وكان عدد أفراد حامية البرلمان لا يتجاوز الثلاثين شرطياً، استشهد منهم ثمانية وعشرون، ونجا اثنان بأعجوبة ليرويا فيما بعد قصة هذه المذبحة الرهيبة التي تقشعر لها الأبدان، وتؤكد أن المحتل الغربي مهما حاول أن يظهر التحضر والتمدّن لا بد له أن يكشف عن وجهه القبيح الذي يفضح طبيعته الإجرامية التي طالما أخفاها خلف مصطلحات “الانتداب” و”مساعدة الشعوب في حكم نفسها”، ليتبيّن للجميع أن جميع ادّعاءات الغرب إلى اليوم حول حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها ما هي إلا شعارات جوفاء فارغة تسقط عندما تصطدم مع مصالح الدول الاستعمارية وأطماعها في احتلال البلاد وسرقة ثروات الشعوب.
إن الشعب السوري الذي يحيي ذكرى شهداء حامية البرلمان في ٢٩ أيار من كل عام، يستذكر تضحيات رجال أبطال قاتلوا من أجل حرية شعبهم وكرامتهم الوطنية واستقلال بلدهم، فدفعوا حياتهم ثمناً غالياً في سبيل الوطن.