أوروبا الغربية في أزمة
عناية ناصر
يواجه الاتحاد الأوروبي ودول أوروبا الغربية الأخرى في الآونة الأخيرة، أزمة متنامية. وقد وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا الوضع على أفضل وجه، حيث ذكر في عدة خطابات ألقاها في نهاية نيسان وبداية أيار أن أوروبا كانت في خطر مميت. وشدّد أيضاً على أن “كل شيء يمكن أن ينهار بسرعة كبيرة”. ويعتقد بعض المحللين السياسيين الروس أن اقتصادات معظم دول الاتحاد الأوروبي كانت على مدى العامين الماضيين في حالة جمود فعلي، وخاصة ألمانيا، التي أطلقت عليها وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية لقب “رجل أوروبا المريض”. ووفقاً للمحللين السياسيين أنفسهم، فإن الأغلبية المطلقة لزعماء أوروبا الغربية الحاليين لا يقومون بتقييم الوضع بشكل كافٍ، وتحت ضغط قوي من الولايات المتحدة، يتخذون قراراتٍ لا تتوافق مع مصالحهم الوطنية. ويتجلى ذلك أولاً وقبل كل شيء في العدد الكبير من العقوبات ضد روسيا ورفض قبول مصادر الطاقة الروسية الرخيصة نسبياً، الأمر الذي يؤدّي إلى تباطؤ كبير في وتيرة التنمية. ونتيجة لذلك، انخفض مستوى معيشة السكان وأصبحت الحركة العمالية أكثر نشاطاً في الدفاع عن حقوقها، ومن الأمثلة الحية على ذلك حركة الفلاحين القوية.
كتبت الصحافة الأوروبية على نطاق واسع عن الانقسام الصناعي المثير للقلق الذي نشأ بين أمريكا وأوروبا، حيث “تتخلف أوروبا عن أمريكا والصين”. في الواقع، تعتمد الدول الأوروبية بشكل كبير على الطاقة والتكنولوجيا، وخاصة في الطاقة المتجدّدة والذكاء الاصطناعي. ووصف ماكرون القانون الأمريكي الأخير لخفض التضخم بأنه “ثورة مفاهيمية”، واتهم الولايات المتحدة بأنها تدعم صناعاتها الحيوية. وفي الوقت نفسه، قال الرئيس الفرنسي: أياً كان من سيصل إلى البيت الأبيض في عام 2025، فيجب على أوروبا أن تتخلّص من سنوات الاعتماد العسكري على أمريكا.
ومن جهتها قالت مجلة “الإيكونوميست” البريطانية: إن الأوروبيين مرّوا بالكثير من الأزمات في الآونة الأخيرة ويخافون من أشياء كثيرة: روسيا، وأمريكا الانعزالية، والشركات الكبرى المفترسة، وتغيّر المناخ. ومن المفترض أن يتم تطوير الإجابات على كل هذه التحدّيات في بروكسل، ولكن بيروقراطية الاتحاد الأوروبي مشغولة بمصالحها الأنانية إلى الحدّ الذي يجعلها لا تفهم احتياجات الأوروبيين العاديين. وكما قالت مؤخراً السياسية الألمانية المعروفة وعضو البرلمان الأوروبي كريستين أندرسون: “إن القادة الحاليين لا يخدمون مصالح الشعب، فهي لم تعُد حكومة الشعب، بل حكومة الكارهين للبشر على مستوى العالم، والشعب لن يسمح لهم بالتهرّب من المسؤولية عن الخداع المستمر والحديث عن أن كل شيء هو خطأ الناس العاديين”.
يتخلف الأوروبيون عن الأمريكيين، حيث نما الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي بنسبة 4٪ فقط بالقيمة الحقيقية منذ عام 2019، أي نصف المعدل المسجّل في أمريكا، بينما انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة وألمانيا تقريباً. ووفقاً للصحافة البريطانية، فإن الاقتصاد يتعثر بسبب الصدمة الروسية في عام 2022، والإجراءات الأمريكية. وتضاف إلى هذا مشكلات الهجرة المتنامية، فأوروبا لا تستطيع الاستغناء عن العمالة الإضافية بسبب الشيخوخة السكانية، ولكن تدفق اللاجئين غير الشرعيين من البلدان الإفريقية يخلق تحدّياتٍ أمنية هائلة.
وربما يكون انحدار أوروبا هو الشعور الأكثر وضوحاً لدى كبار كتاب القارة. تقول أحدث رواية للكاتب الفرنسي الأكثر شهرة، ميشيل ويلبيك، بعنوان “التدمير”: إن المشكلات التي يعيشها الأوروبيون تنبع من إفقار الروح والانحلال الثقافي، فضلاً عن الهوة العميقة بين الأغنياء والفقراء.
ستجرى انتخابات البرلمان الأوروبي في أوائل حزيران من هذا العام، وهي وفقاً لصحيفة” نيويورك تايمز” في 7 أيار، “ستفيد اليمين المتطرف”، ما يعكس السخط الشعبي: “على الرغم من كل خطابه الديمقراطي، فإن الاتحاد الأوروبي أقرب إلى حكومة القلة” المؤسسة ،فالكتلة، التي تسيطر عليها هيئة غير منتخبة من التكنوقراط في المفوضية الأوروبية، لا تسمح بالمشاورة الشعبية بشأن السياسة، إضافة إلى المشاركة. وقواعد ميزانيتها، التي تفرض قيوداً صارمة على ميزانيات الدول الأعضاء، تحمي الأغنياء في حين تفرض تدابير التقشف على الفقراء.
تهيمن على أوروبا مصالح القلة من الأثرياء، ما يحدّ من حرية الأغلبية. وفقاً للصحافة الأمريكية، تظهر استطلاعات الرأي قبل انتخابات حزيران أن القوى اليمينية تسير على الطريق الصحيح للفوز بنسبة 50 في المائة من المقاعد في البرلمان. وبالنسبة للعديد من اليمينيين، فإن هذا يوفر فرصة لإنهاء الائتلاف الكبير بين الاشتراكيين والديمقراطيين المسيحيين الذي هيمن تاريخياً على السياسة الأوروبية.
إن القضايا البارزة الأخيرة التي تتعلق بتلقّي مسؤولين أوروبيين رشاوى، حيث لا يزال نائب رئيس البرلمان الأوروبي وعدد من أعضائه رهن الاعتقال، لا تدعم شعبية البرلمان الأوروبي. وفي القارة الأوروبية، ترتفع أصوات الشخصيات الرصينة التي تدرك أن النظام العالمي القائم على الأيديولوجيا الليبرالية قد انهار ويجب تدميره واستبداله بنظام علاقات دولية قائم على سيادة الدولة والمصالح الوطنية. وقد تردّدت هذه الأفكار بوضوح في تصريحات قادة المجر وسلوفاكيا، فضلاً عن العديد من السياسيين المعارضين في دول أخرى من الاتحاد الأوروبي.