الدعاية السياسية
ارتبطت الدعاية السياسية بالصراعات والحروب التي اندلعت عبر التاريخ، وأخذت أشكالاً مختلفة تتعلق بكل عصر وأدواته الإعلامية من قول وشعر وخطاب ديني وسياسي وصولاً إلى العصر الحاضر، حيث لعبت وسائل الإعلام دوراً كبيراً في هذا المجال، وتحديداً في الحربين العالميتين الأولى والثانية، فلا تكاد تذكر الدعاية السياسية والإعلامية إلا ويُذكر غوبلز مسؤول الإعلام في حكومة هتلر كأنموذج لذلك، ولاشك أن للدعاية السياسة دوراً كبيراً في إضعاف الخصم أو الخصوم والتأثير النفسي في معنوياتهم، وصولاً لما يمكن تسميته الهزيمة النفسية الافتراضية عبر الرأي العام، وعلى الضفة الأخرى رفع منسوب الثقة والأمل واليقين بالنصر في الطرف الآخر.
وفي العصر الحاضر يتم التركيز على مفهوم القوتين الصلبة والناعمة، وكذلك الذكية، فعندما صاغ جوزيف ناي قبل عقد من الزمن عبارة القوة الناعمة، فإنها غيرت طريقة تحليل القضايا العالمية من خلال التأثير الصاعق في الخصم عن طريق الجاذبية القوية للخطاب المرسل والمحتوى المحمول عبر تأثيره في عالم يحدّده تدفق المعلومات والسرعة في نقلها، فالقوة الناعمة التي تمثل الدعاية السياسية والمنظمة هي سلاح مؤثر يحقق الأهداف دون ثمن بشري وضحايا، وتتمثل في القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق التأثير النفسي والمعنوي بدلاً من الإرغام أو دفع الأموال والمزيد من الضحايا، فالقوة من حيث الجوهر هي القدرة على فعل وتحقيق الأشياء والأهداف، وبالتالي الحصول على النتائج عبر تدمير قدرات الطرف الآخر، والدعاية السياسية هي إحدى أدوات القتال النفسية، فهي لعبة بين طرفين أياً منهما يستطيع كسر إرادة الطرف الآخر سواء بالخداع أم التضليل أم المعلومات الكاذبة أو تضخيم أو تقزيم الخصم، وتعتمد الدعاية السياسة بشكل جوهري في خطابها على المشاعر لا العقول، فهي لا تستهدف النخب بشكل أساسي، لأن المثقف يمكنه التفكير خارج سياق الدعاية السياسية، وهو من يساهم في صناعة الوعي، وإنما المستهدف هو عامة الجمهور لقلة أو ضعف وعيه وعدم قدرته على التحليل العميق للخطاب المعادي ودرجة صدقيته، ما يؤدّي إلى تشكيل انطباعات لدى الخصم يصعب تغييرها، إضافة إلى أن الدعاية السياسية تركز على شخصنة الأشياء وشيطنة الخصوم، فلا حديث عن أشياء مجردة لجهة نمذجتها وإعطاء انطباع بأنها هي المشكلة وهي الهدف، بدل تشتيت الانتباه وضياع الهدف، وهنا نتذكر ما فعله الأميركيون في غزوهم للعراق، وما جرى في ليبيا وسورية، فبحجة إسقاط النظام دمّروا العراق، وكذلك ليبيا، وراهناً يركّز الخطاب الصهيوني الإعلامي في إطار ما يجري في غزة على يحيى السنوار ومحمد ضيف ليكونا الغطاء لتدمير غزة وتهجير سكانها، والسؤال لماذا الشخصنة مهمة، لأنه لا يمكن إظهار النيّات للرأي العام لأنها لن تجد قبولاً أو تبريراً، فمثلاً لو قال الأميركيون عند غزوهم للعراق إننا ذاهبون لتدمير العراق، أو الفرنسيون لتدمير ليبيا، لما كان ذلك مقبولاً على أي مستوى من المستويات، فالحجة دائماً والغطاء إما الحرب على الإرهاب وإما إسقاط نظام دكتاتوري، وغير ذلك من أكاذيب، فلا بد من اختيار شخص واحد وشيطنته ليصبح كل شيء مبرّراً، وهنا لا بد من الإشارة إلى صناعة التكنيكات الإعلامية لإنجاز ذلك الهدف، وتحتاج الدعاية السياسية إلى جانب ما تمّت الإشارة إليه إلى تحديد مجموعة من الأهداف القليلة والتركيز عليها بدل مصفوفة أهداف كثيرة ومتشعبة يصعب التحكم بها لإشغال الرأي العام، إضافة إلى القاعدة الذهبية في الدعاية السياسية “اكذب اكذب حتى يصدّقك الناس”.
والحال أن الدعاية السياسية علم متطوّر ودراسة لنفسية المجتمع وثقافته وميوله، فلا بدّ من انتهاج واختيار خطاب يتقبّله الجمهور المستهدف لأن المطلوب مخاطبة عواطف الناس لا عقولهم كما أشرنا في المقدمة، وهنا يمكننا أن نتذكر أن الإذاعة الإسرائيلية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كانت تقدّم برامج بلهجات شعبية مصرية وعراقية وفلسطينية فيها جاذبية للمستمعين من خلال تفاصيل ويوميات المصريين والعراقيين والفلسطينيين، وغالباً ما كان مقدّمو تلك البرامج من اليهود المهاجرين من العراق ومصر وغيرها من بلدان عربية.
ولا شك أن للحروب الدعائية آثاراً نفسية على أفراد المجتمع وتحدث تغييراً في أمزجتهم، وقد ترتب لديهم استعدادات سلبية وارتكاسات سلوكية وضعف انتماء واستعداد لتقبّل صورة العدو، وحتى تغيّراً في الطباع العامة، فالحروب الناعمة هي عملية تخدير مستمر للرأي العام لجهة نقله إلى ضفة أخرى، قد تصل إلى حدود الاستسلام النفسي أو التنويم المغناطيسي الجماعي، وهنا تبرز الحاجة لمواجهة خطابات كهذه واتخاذ كل ما يلزم لمواجهتها عبر التعبئة السياسية والثقافية والإشباع النفسي والغرائزي، وتوطين ثقافة الوعي العميق والثقافة السياسية، ومعرفة العدو والتحرك في مساحات الجهل، وامتلاك خطاب إعلامي مؤثر ومقنع وصادق وتفاعلي، وبناء جسور ثقة مع الجمهور، إضافة إلى التكنيك الإعلامي المتقدم المدعّم بالدراسات الاجتماعية وخلاصات مراكز الأبحاث والدراسات واعتماد أسلوب الإعلام الاستقصائي والاستبيان وقياسات الرأي العام، لا الاعتماد على (الرأي الخاص) الذي يستغبي الجمهور ويقلل ويسفّه من آرائه ومواقفه، ما يجعل الإعلام في اتجاه والجمهور باتجاه آخر، وهنا يصبح فريسة وهدفاً سهلاً للدعاية السياسية والحروب الناعمة.
د. خلف المفتاح