قصائد تنهل من معين أبو فراس الحمداني
أمينة عباس
“من المرات القليلة في أنشطتنا الثقافية أن يقوم أديبان من الجيل نفسه بالكتابة عن جهود الآخر، وهذا من النادر أن يحدث، لأن أبناء الجيل نفسه في كثير من الأحيان تغلب عليهم المشاحنات والتنافسات”.. بهذه الكلمات عبَّر الدكتور راتب سكر عن سعادته باختيار الدكتور ثائر زين الدين قصيدة له لتكون ضمن موضوع محاضرته التي ألقاها في فرع دمشق لاتّحاد الكتّاب العرب وحملت عنوان “استلهام أبي فراس الحمداني في قصائد حديثة”، يقول سكر: “استلهمتُ حادثة مصرع الحمداني الدرامية حيث بقيت جثته في العراء مدة يومين إلى أن جاء إعرابي وحفر حفرة وأهال عليها التراب، فكانت قصيدتي “في انتظار أعرابي يواري زين الشباب الحمداني الثرى” وهي قصيدة التفعيلة التي تجعل من حالة مصرع الحمداني قصة درامية شعرية تجلت فيها حالات كثير من المناضلين الذين يواجهون مصائر مفجعة في سبيل أحلامهم”.
كثيرة هي الأسئلة التي طرحها زين الدين في بداية محاضرته ويشترك الغالبية في طرحها عن أسباب قيام شاعر عربي معاصر باستحضار شخصية تراثية ما والجدوى الفنية والفكرية من ذلك وسبب الغوص في الماضي عوضاً عن الانطلاق قدماً إلى المستقبل، وغيرها من الأسئلة: “ثمة مجموعة من البواعث والأسباب وراء استدعاء هذه الشخصية التراثية أو تلك في الشعر العربي المعاصر، ولاسيما تلك الشخصيات المهمة أو التي تصبح مهمة شعرية من خلال جملة من السمات الدالة التي تتمتع بها الشخصية ذاتها، فتجعلها قادرة على التراسل مع موضوعات معاصرة أو هموم سياسية أو اجتماعية أو ذاتية، فتلتقي تلك السمات الدالة والخاصة بالشخصية مع مجموعة من الدوافع المختلفة الكامنة في نفس الشاعر، فإذا بالشخصية التراثية تصبح قادرة على النهوض بما يريد لها الشاعر فكرياً وفنياً، بالإضافة إلى بواعث أخرى فنية ووطنية وقومية وسياسية ونفسية وعاطفية وثقافية: “تأثر شعراؤنا المعاصرون، والرواد منهم بخاصة بتجارب الشعراء الأوربيين في هذا المجال، وعلى رأسهم الشاعر والناقد الإنكليزي “ت.س.اليوت”، وتناول زين الدين في محاضرته الاستغراق الكلّي في شخصية أبي فراس الحمداني وهو ما لمسه في ثلاث قصائد هي “روميات أبي فراس” لعبد الوهاب البياني، وظهرت في مجموعته “الموت في الحياة” عام ١٩٦٨ و”من روميات أبي فراس” لمحمود درويش والتي ظهرت 1995 في مجموعته الشعرية “لماذا تركت الحصان وحيداً” و”في انتظار أعرابي يواري زين الشباب الحمداني الثرى” لراتب سكر، وقد ظهرت في مجموعته الشعرية “ملاءة الحرير” عام ۲۰۰۰، موضحاً أن الشاعر في هذه القصائد لا يستدعي الشخصية في فقرة أو مقطع من القصيدة، بل يشغل استحضارها قصيدة كاملة من خلال موقفهم منها متحدين بها ومتحدثين من خلالها وفق تقنية القناع أو منفصلين عنها ومتحدثين إليها أو عنها وما إلى ذلك: “والحق أن الشاعر يلجأ إلى هذه التقنية حين يشعر أن علاقته بهذه الشخصية بلغت ذروتها، وأن الشخصية تستطيع أن تنهض بملامحها التراثية بأبعاد تجربته الخاصة، فإذا به يتقمصها ويتحدث بلسانها أو يدعها هي تتحدث بلسانه، وحينها سنراه يضيف إلى ملامحها ما يخدم رؤاه الفكرية”، وهو ما فعله الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي وكان من القلة القليلة من الشعراء العرب الذين استلهموا شخصية أبي فراس الحمداني وقد اتخذ منه قناعاً له للتعبير عن حالة الغربة والمنفى التي عاشها بعد أن سُحبت منه جنسيته العراقية وحُرم من العودة إلى بلده فأقام في القاهرة بين العامين 1964 و1971 وفيها كتب قصيدة عنوانها “روميات أبي فراس” وقد ظهرت في ديوانه “الموت في الحياة” عام 1968 ويتساءل زين الدين: “هل كان البياتي يشعر وهو في القاهرة بعيداً عن بغداد بما كان يشعر به أبو فراس وهو في بلاد الروم؟” ليجيب قائلاً: “لم يكن البياتي في القاهرة أسيراً، لكنه لم يكن يستطيع العودة إلى العراق الذي أسقط عنه الجنسية، ولم يكن المصريون روماً.. هي مشاعر الشاعر المتأججة ألماً وحزناً في منفاه الاختياري وغربته وهو المترقب أن يأتيه من يفتديه ويعيده إلى بلده كما كان يأمل الحمداني الأسير”.
وضمن تقنية الاستدعاء العرضي، تحدث زين الدين عن تجربة محمود درويش في استحضاره لشخصية أبي فراس الحمداني عام 1966 وكان ذلك في ديوانه “عاشق من فلسطين” من خلال قصيدة حملت عنوان الديوان: “فعل ذلك ليؤكد أن الصراع مع الغزاة ليس وليد اليوم بل هو قديم جداً، وسيستمر، وقد استعاد صوت أبي فراس وجعله يتحدث منبهاً لذلك: خيول الروم!/ أعارفها/ وإن يتبدل الميدان/ خذوا حذراً من البرق الذي صكّته/ أغنيتي على الصوان” وبعد ما يقارب ثلاثة عقود عاد درويش إلى استحضار الشخصية ذاتها، واجداً ضالته الفنية والمعنوية للتعبير عن تجربة اعتقاله في سجون الاحتلال الصهيوني” ولكن وفق الاستغراق الكلي في الشخصية لتشابه تجربتهما في الأسر وانتظار الخروج إلى الحرية وترقُّب أخبار الأهل ورسائلهم فيستعيد درويش تجربة سجنه عندما كان في حيفا، فوجد أن الشخصيّة الأقدر على التراسل مع أفكاره ومكابداته وعواطفه وإخراجها من إسارها الذاتي إلى الفضاء الموضوعي الخارجي بما تحمل من سمات دالّة ورسوخ في وجدان المتلقي العربي”، ويفسر زين الدين هذا الاستحضار بعد مرور سنوات طويلة على سجنه قائلاً: “التجارب الأليمة الموجعة لا يمكن أن يمحوها الزمن وستلاحق صاحبها مهما حاول نسيانها، إضافة إلى نضوج تجربة الشاعر كثيراً بعد اطلاعه على تجارب كثيرة في الأدب العربي والعالمي، ما جعلها تزداد عمقاً وثقافة ومعرفة في شتى وجوه المعرفة وفي حقل الأدب بالتحديد”.
وختم زين الدين محاضرته بتحليل استلهام الشاعر راتب سكر لشخصية الحمداني في سيرته وشعره من خلال قصيدته “في انتظار أعرابي يواري زين الشباب الحمداني الثرى” والتي يقول فيها:
كان ياما كان
في صَوْتِي بَقَايَا
مِنْ أَسِيرْ
وخَفَايا
مِنْ أَمِيرْ.
كان للبحْرِ نَشِيد
حولَ سِجْنِي
وخبايا
طوَّقَتْ أمْواجُهَا دَفْتَرَ عُمْرِي
ثم بيَّن زين الدين أنَّ الشاعر سكّر تساوت عنده حالة جثة الحمداني مرمية في العراء تحت النجوم في قرية صدد التابعة لمحافظة الشاعر، على الرغم من ذلك يأمل أن له في حمص صديقاً لن ينكر الودَّ وملاعب صبا درج عليها مرمياً على فراشه شاخصاً إلى السقف حسيراً من جراء ملمَّة لا بدَّ أنها ألمَّت به وراح يُلمِّح لها تلميحاً، لكنه أنشد:
مُنْذُ يَوْمَيْن
ظَلَامِي حَالِكٌ
لا “تَدْمُرٌ” قَالَتْ: أخِي .
لا “صددٌ” غًطَتْ فَتَاهَا .
مُنْذُ يًوْمَيْن
وَقَلْبِي مِزَقٌ يَصْرُخُ: صَحْبِي!
أَنَا صَوْتٌ تَائِهٌ بَيْنَ فِرَارٍ وَرَدَى
وَالريحُ تَلْهُو في خِيَارِي .
وتلا حديث زين الدين حوارات متعددة أدارها الكاتب أيمن الحسن تناولت شخصية الحمداني الشاعر وتجربته الصعبة، وخصوصية القصائد الحديثة التي نهلت من تجربته الشعرية والإنسانية.