محمد الركوعي واللوحة الصغيرة من الروسي إلى النبطية
ملده شويكاني
وجه المرأة الحزينة مغمضة العينين على التدرجات الخلفية للمدينة المقدسة وقبة الصخرة والكنيسة، تعلوها طيور السنونو الهائمة في فضاءات تبحث عن الحرية مع تقاطعات هندسية تندمج برمزية المقاومة بلونها الأحمر، كانت إحدى اللوحات التي شارك بها الفنان الفلسطيني المقاوم محمد الركوعي ضمن مجموعة مكونة من ست لوحات صغيرة في معرض يوم الأرض، الذي شهد افتتاحه، مؤخراً، في المركز الثقافي الروسي حضوراً دبلوماسياً و رسمياً وجماهيرياً.
وتعبّر المجموعة عن مساره الفني الغني بالتقنيات والأساليب والحداثة برؤى تتماوج بين الواقعية التعبيرية حيناً، والتعبيرية والرمزية في أحايين أخرى، وتجمع بين الطراز المعماري القديم لبيوت مدن فلسطين، وأدوات التراث والمشغولات اليدوية الدالة على التراث الفلسطيني، إضافة إلى الثوب الفلسطيني المرتبط بمدنها والشامل، لتشغل المرأة الفلسطينية العنصر الأساس لتكوينات اللوحة بتوظيفها الجمالي بتورية معناها القريب لكونها الأم الفلسطينية التي ربّت الأجيال على المقاومة وحفظ الهوية الفلسطينية والتراث الفلسطيني، الذي يعمل العدو الصهيوني على تهويده، وبين معناها الرمزي بقوة الانتماء والارتباط بالأرض وحق العودة، إذ تتميز المرأة بلوحاته بملامحها الجميلة بأنفها الدقيق، وعينيها اللوزيتين وحاجبيها المقوستين، ويبدو جمالها حتى بالحزن المهيمن على وجهها.
كما عمل الركوعي على إظهار أبعاد المدن الفلسطينية بالمدى القريب والبعيد، والملفت أن ثمة تقاطعات بين المجموعة التي شارك بها بمعرض يوم الأرض بالمركز الثقافي الروسي يبدو في الخلفية الأساسية باللون الأخضر برمزيته إلى التجدد والاستمرار، وبتوظيفه العنصر الأساس المرأة المزدانة بألوان زاهية بوشاحها المزركش.
ولم تقتصر اللوحة القصيرة على المشاركة في هذا المعرض فقط، فبعد يوم الأرض يشارك مع مجموعة من الفنانين اللبنانيين في صالة نور بلوق في النبطية في لبنان بخمسة عشر عملاً من اللوحات الصغيرة، بألوان مائية ومواد مختلفة بموضوعات تتعلق بالتراث.
سألته عن أهمية اللوحة الصغيرة بالنسبة إليه؟ فأجاب: “أطلقتُ على المجموعة التي عُرضت بالمركز الثقافي الروسي “لوحات صغيرة، أحلام كبيرة”، وهي من أعمال معرض أقمتُه في غزة عام 2010 ولاقى استحساناً وإعجاباً كبيراً من الجمهور، وبقي هذا الاسم مدرجاً على اللوحة الصغيرة، التي تشبه القصة القصيرة المعبّرة عن أشياء كثيرة في الحياة، فاشتغلت على اللوحة الصغيرة المكثفة التي من الممكن أن تختزل الفكرة المراد إيصالها ويتداولها جمهور أكبر، مقارنة باللوحة الكبيرة التي تمنح الفنان مساحة أكبر لتجسيد أحلامه لكنها تحتاج إلى كلفة كبيرة .
ومن جانب آخر، فإن معظم الهدايا التي أقدمها من اللوحات الصغيرة، وخاصة للفنانين الذين يقيمون معارض كنوع من التشجيع لهم، لكن هذه الأعمال مهمة ومتقنة ويحتفظ بها الناس لأنها لا تحتاج إلى مكان واسع، أما وجوه النساء الحزينة، فأنا لا أنتبه إلى ذلك ولا أركز عليه، ربما الأوضاع القاسية التي نعيشها تنعكس عليها على الرغم من أنني أختار ألواناً زاهية تدعو إلى التفاؤل”.
وفيما يتعلق بوجود مدينة قريبة وتلاشي مدينة أخرى، فيعود إلى الأبعاد إلى المسافات فحينما نرسم مكونات قريبة تكون واضحة بالهيكل العام وبالتفاصيل، أما المكونات البعيدة فتكون رمزية تومئ
بالخيال أو الذاكرة أو الوهم وتكون غير واضحة المعالم مثل القريبة.
ومن جانب آخر فالركوعي عكس الجانب النضالي في لوحاته، فتحولت الرصاصة إلى لغة بصرية وذاكرة حادة لمعاناة شعبه وللمقاومة التي لم تهدأ، ولاسيما في مرحلة اعتقاله في سجون العدو الصهيوني، بعد أن تمرّس بالعمل الفدائي وبتنفيذ عمليات مباغتة ضد العدو الصهيوني وقاد عمليات عسكرية في غرب موطنه غزة، فتم اعتقاله في عام 1973 بتهمة الانتماء للمقاومة، ومشاركته بأعمال فدائية قتالية، فحكمت عليه قوات الاحتلال الصهيوني بالسجن المؤيد، وأمضى بالمعتقل اثني عشر عاماً، لكن القدر أراد أن يتحرر الركوعي فتم ذلك في عملية الجليل الفلسطينية لتبادل الأسرى في العشرين من شهر أيار عام ، 1985 ومن ثم غادر غزة إلى دمشق واستقر فيها، وتابع مساره الفني بحراك نشط، وأقام معارض فردية وشارك بمعارض جماعية، إضافة إلى إقامته خمسة ملتقيات في السنوات الأخيرة: ثلاثة في مصياف، واثنان في دمشق من تنظيمه وإشرافه وتمويله، ويعمل على تطوير أدواته ويطرح موضوعات جديدة ويستخدم تقنيات متعددة، وعن معرض طوفان فلسطين الذي نظّمه وأقيم في الرواق العربي، أضاف: “أقمتُ المعرض برعاية السفارة الفلسطينية في سورية لوجود فصائل فلسطينية متعددة، تنضوي جميعها تحت لواء السفارة، فلا أريد أن تتبع معارضي لفصيل معين وإنما للجميع”.
وعن تفاؤله بالنصر، عقب: “التفاؤل بالنصر بعيد الآن على الصعيد العربي والفلسطيني، لكنه سيتحقق بالتأكيد، فعدونا الأساس الولايات المتحدة الأمريكية ومن ثم “إسرائيل” التي تخدم أمريكا، ولولا القذائف الأمريكية التي تصل ليلاً ونهاراً بحاملات الطائرات الأمريكية الضخمة، لما استطاع هذا الكيان الغاصب مواجهة المقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة”.
ومن أجمل ما قاله بعد تحرره من المعتقل: “كنتُ أقنع أمي بأنني لن أخرج أبداً، وكانت تقول لي: بل ستخرج وستكون بيننا، وتحققت آمال أمي وخرجتُ ومارستُ الحياة كمولود جديد، وفرحت بي الحياة، وفرحتُ بها، لذلك أحبُ دائماً أن أسعد من حولي، لأن الحياة قصيرة جداً”.
وتبقى لوحات الركوعي سفيرة المقاومة إلى كل العالم فمنذ أن كان بالمعتقل عمل على تهريب لوحاته إلى الخارج، فكان يقاوم بريشته وألوانه ورموزه، وما يزال يقاوم، ويتابع: “حالياً بدأت بعض الجهات العالمية المهتمة بالفنّ تقتني أعمالي، وأغلب نتاجي أصبح مباعاً ومنتشراً في دول العالم، ولاسيما أن أعمالي جادة ولا أهدف إلى الرسم فقط، وإنما إلى إصدار لوحة هادفة ومتقنة أعتني بكل تفاصيلها وفي الوقت ذاته يحبها جمهور الفن”ّ.
ويعمل محمد الركوعي حالياً على التحضير لمعرضه الجديد الذي سيقام في شهر تشرين الثاني القادم من هذا العام-2024 في المركز الثقافي الروسي، كما يفكر بإقامة معرض للوحة الصغيرة.