كوليت خوري وفلسفة الفنيات
غالية خوجة
تحلق بين الكلمات، وتكتب المعنى الأقرب إلى القلب، وبمحبة متجذّرة بحب الوطن مثل جدها فارس الخوري الذي ألفت عنه كتابين بعنوان “أوراق فارس الخوري”، تترك لنبضاتها العزف على الحياة.. هكذا، تطلّ كوليت خوري على القراء الذين لا ينسون روايتها “أيام معه”، الصادرة عام 1959، وما تلاها من أعمال أدبية بدأتها بالشعر مع مجموعتها الأولى 1957 “عشرون عاماً” باللغة الفرنسية، والثانية “رعشة”، مواصلة رحلتها مع الكلمة بين رواية وقصة ومسرح ومقالة.
وتتمتّع أديبتنا بإحساس موسيقي وفني، تكتب وكأنها تترك لصوتها أن يعبر بين النصوص مغنياً، ومعترضاً، ليلتحم مع حركة أصابعها الممسكة بالقلم كما تمسك العازفة آلة القيثارة القديمة، فتخرج شخصيات كتبها إلى الواقع، وتحكي عن الأحداث بين مونولوغ وديالوغ، عائدة إلى ذاتها وبيئتها الموضوعية، بعدما تكون قد تركت للقارئ التفكير بما يقرأ، خصوصاً، عندما تكون الشخصية “أنثى” تريد أن يراها الآخر إنسانة تزينها الأنوثة ولا تنتقصها، وهذا ما تتمحور حوله أغلب القصص والروايات المنسوجة بمحبة، الهادفة إلى تحريك منظومة التفكير المعتمة بمفاهيم إنسانية تتكامل معها الحياة، فلا يكون المذكر ندّاً، بل يشكّل مع الأنثى عالماً حياتياً أكثر جمالاً وإنسانية وحضارة.
وما بين حب وحرب وتفاصيل حياة وتاريخ، يغوص إحساس كوليت خوري في الأعماق، مستخرجاً جوانب من العالم اللا مرئي للإنسان والطبيعة والكينونة، بأسلوب لغوي بسيط عميق، مشوّق، رومانسي، رمزي، وشعري، وفلسفي، يتمحور حول أمور عديدة، ومعاشة، ومتنوعة، نفسية، واجتماعية، بعضها يحدث في المسكوت عنه، لكنّ خوري تكشفه لتشير إليه، لعلّ المجتمع يعالجه، ومن هذه البنية، تمثيلاً، روايتها “ليلة واحدة”، التي تفصح فيها البطلة “رشا” عن مصائب الزواج المبكر للطفلة القاصر، وكيف يعدها الأب والزوج من أملاكه، وكيف تخرج عن هذه السلطة الذكورية البطرياركية المهمّشة للإنسان المؤنث، بالمصادفة، عن طريق رحلة العلاج الطبية بين عدة دول، وكيف تلتقي “كميل” العاشق لدمشق، وطنهما، وتكون معه ذات ليلة، وكيف تصارح زوجها “سليم” العقيم، بتلك الخيانة ليتمّ الانفصال الذي كان موجوداً أصلاً، لكن رشا تموت بحادث سير.
كما نجد مشاعر إنسانية تخصّ الذات العميقة لشخصية بطلة “ألم برجوازي”، والتي تظهر بضمير متكلم مونولوغياً، تختفي وراءه الأنا الكاتبة كراوٍ عالم بكل شيء، وتبدأ مع بوحها الذي من الممكن أن يكون خاتمة أولى للقصة: “تمنت لو تقول له: تعال أنت وأسرتك وعيشوا هنا، بيتي واسع رحب دافئ”، لتستمر في الحبكة وتحكي عن ألمين متناقضين سببهما الحالة المادية التي تمثلها برجوازيتها، وتعكسها الحالة النقيضة للصديق الريفي الملتزم، الذي كان سعيداً بحصوله على مدفأة لأسرته الفقيرة، والتي تتضح أحوالها من خلال المحادثة الديالوغية بينهما ذات زيارة، فتتعرف البطلة على عوالم أخرى من الحياة التي تجهلها، لكن ألمها نابع من فيض المال والبيت المتسع وصقيع الوحدة، وهذا ما تعبّر عنه بفنية، منصّتها أفق توقعات البطلة وهي ترى كيف يعود صديقها إلى أسرته: “يقترب من الأطفال، يغلفهم بنظرات حنانه، ثم يحمل الغطاء الوحيد الذي تدحرج إلى الأرض، ويضعه عليهم في سكون. وأخيراً، ها هو يخلع ثيابه على عجل وينزلق مسرعاً، وهو يرتجف من البرد، تحت اللحاف الرقيق إلى جانب زوجه في السرير الحديدي الضيق، الضيق”.
أمّا بالنسبة للفنيات الفلسفية في أعمال كوليت خوري، فهي تأتي بأسلوبها، وأشير إلى قصتها “أغلى جوهرة بالعالم” وهي قطرة دم الشهيد المرتبطة بالوطن والشعر، وقصتها المسرحية “التهمة” التي تختزل فيها ما يحدث في الحياة اختزالاً رمزياً وامضاً، وتخصّ الرؤيا العارفة بالعينين، لأن المجتمع لا يريد للإنسان أن يرى ويبصر ويكشف كما يحدث مع الفتاة البطلة، فكل شيء ممنوع في مكانية القصة، والرائية تكشف عن الجريمة وفاعلها والدخان الحاجب والمرقص والقبر، وترفض أن تُزرع لها عينان بدل عينيها الزجاجيتين، وهذه الخاتمة الخارجة عن أفق التوقعات تضيف جمالية أخرى.